العلمانيَّة الماديَّة وأفق الميتافيزيقيا

منصة 2024/01/16
...

 حسن الكعبي

ما زالت العلمانيَّة تثير إشكالياتها، وتطرح كصيغة ومقترح لحل الأزمات والتعضلات السياسيّة في العالم العربي والعالم بشكل عام، لا سيما مع ما تنتجه مؤسسات الاستبداد السياسي في نطاق هذين العالمين، وبذلك فإنَّ المقترح العلماني يغدو الصيغة الجاهزة في طروحات الكثير من المفكرين المتحيّزين لهذا المفهوم.
وفي الغالب فإنَّ المفهوم يتسيّد هذه الطروحات من دون أن يخضع لمراجعة تاريخينيّة هذا المفهوم أو امكانية تبيئته واستنباته ضمن الأرضية المقترح تطبيق المفهوم ضمنها، ومن دون أن يتم تعضيده بسناد نظري يتابع المفهوم في سياق تكييفه بوصفه بديلا عن الوضع السياسي القائم، ومن دون أي متابعة لسلبيات هذا المفهوم وتوجيه الانتقاد له، بل إنَّ التعامل معه فيما نلاحظه من طروحات ينطلق من منطلق الايمان اللاهوتي بهذا المفهوم، وكأنه الحقيقة المقدسة التي لا بدَّ من التعامل معها من منطلق عقيدي، وأن مجرد مخالفته يستدعي أنماط التكفير من الجبهات المتبنية لهذا المفهوم، رغم أن المفهوم خضع لانتقادات عدة من قبل كبار مفكري العلمانية الذين تعاملوا معه بوصفه مفهوما وضعيا قابلا للفحص العلمي، وأن غالبية مفاهيمه لا تصمد امام هذا الفحص، بل إن بعضاً من متضمناته تكشف عن أنساق خطيرة منتجة للإقصاء والاستبعاد، والتعصّبات والانساق الشوفينيّة.
 إنَّ المفهوم لا يخلو من خصائص تقدميَّة ويتمتع بقابلية التطوير المعرفي، لكن ذلك لا يعفي المفهوم من العيوب التي يتابعها كبار المفكرين الذين لاحقوا هذا المفهوم في سياقه التاريخي، وتطبيقاته على أرضيات مختلفة.
وفي هذه القراءة سنعمل على إظهار تلك المتابعات للمفهوم، والعمل على إظهار سلبياته، في نطاق الفحص الذي يفرّق بين تجليات مفهوم العلمانيّة في أرضيات مختلفة وفق تصورات عبد الوهاب المسيري الذي تابع تاريخانيّة العلمانيّة، وما يترشّح عنها من أنساق شوفينيّة في سياق تأثيرات (نيتشه) الذي يصفه المسيري بـ ـــ فيلسوف العلمانيّة الأكبرـــ ففي سياق قراءته لمفهوم العلمانيّة يتابع المفكر العربي الراحل عبد الوهاب المسيري في كتاب (الصهيونيَّة والنازيَّة ونهاية التاريخ) نشأة مفهوم العلمانيّة، وتبلور التيارات الاستعباديّة والاستعماريّة المتخارجة عنه، وما فرضه من تقسيم العالم الى ثنائيّة (السادة والعبيد)، وتراجع القيم الأخلاقيّة، وتقويض أفق الميتافيزيقيا، والنظرة التبريريّة للنازيّة والصهيونيّة.
وتكمن بحسب المسيري هذه التبئيرات الخطيرة ضمن تأثيرات نيتشه في انتاجها، وذلك لأن هذه المفاهيم تعد من المفاهيم المركزيّة في تصورات نيتشه واشتغالاته الفكريّة، ومن منطلق رصده لتجليات هذه الأنساق فإنّ المسيري يشير إلى (أن مفهوم العلمانيّة على وجه الخصوص هو عنصر الكمون المتحكم بإبراز هذه المفاهيم، بوصف العلمانيّة مفهوماً أساسياً في تقويض مركزية الميتافيزيقيا، وتحرير المجال الفلسفي الغربي الذي كانت تتجاذبه فلسفة الأنوار الهيومانيَّة، والتي طرحت صورة للانسان يوصفه كائناً قادراً على التحكم في نفسه وعواطفه وعلى غزو الكون وتسخيره، من خلال أعمال العقل بجعل الإنسان الواعي مركزا للكون وموضعا للكمون بالتزامن مع الفلسفات العقلانيَّة الماديَّة في طورها الأول، والتي جعلت من المادة غير الواعية مركزاً للكون وموضعاً للكمون).
 بيد أنَّ مثل هذه التصورات التي تجعل للعقل مركزيَّة ثابتة تتعارض مع تصورات العقلانيَّة الماديّة القائمة على افتراض عدم وجود مثل هذه الثوابت المتعارضة مع الرؤية العلمانيّة والعقلانيّة المادية الصارمة التي تؤكد على ردِّ الكون بأسره الى مبدأ واحد كامن في الطبيعة لا يتجاوزها، لذلك فإنَّ المسيري يؤكد (أن تاريخ الفلسفة الغربيّة هو تاريخ الصراع بين الرؤيتين، ولذلك فإنّها كانت بحاجة الى ظهور تصورات تدعم النزعة المادية للفلسفة الغربية من هيمنة الميتافيزيقيا).
إنَّ ظهور مثل هذا التصورات – كما يؤكد المسيري - انبثقت عن أفق تصورات (نيتشه) و فـ (أن ظهور نيتشه يمثل الخطوة المنطقيّة المتضمنة في الانموذج المادي وتحرر الانسان من أي أوهام متبقية عن الثبات والتجاوز والكلية ويحقق العلمنة الكاملة للمجال الفلسفي بأن يطهّره تماماً من ظلال الإله - على حد قول نيتشه).
إنَّ (نيتشه) يمثل المنطقة المحوريَّة والخطيرة في انعطاف الفلسفة الغربيّة نحو التوجه العام في فصل الدين وإقصائه عن مجال المعرفة والحياة، بمعنى تعارض العلمانيّة التي دخلت مجال العقيدة مع الدين، وهو المعنى (التقليدي والاختزالي في تعريف العلمانيّة) رغم كل المحاولات التي تسعى للقول بعدم تعارض العلمانيّة مع الدين.
إنَّ تقويض (نيتشه) للمفاهيم الميتافيزيقية وتحرير المجال الفلسفي من ظلال الإله والأخلاق سمح بظهور مفهوم (إرادة القوة)، والذي كمنت وراءه تأثيرات (داروين)  على (نيتشه) فهو ابن داروين وشقيق بسمارك على حد قول (جون ديوي) في نطاق مفهوم ارادة القوة (وعلى حد قول المسيري) انجز (نيتشه) للفلسفة الغربية ما عجز عنه السابقون عليه من الفلاسفة والمفكرين.
فقد طور (نيتشه) في سياق مفهوم (إرادة القوة) رؤية معرفيّة علمانيّة اكتست طابعاً امبريالياً لا ينقصها سوى الجيوش والدبابات، فمع تطور العلوم البيولوجية، كما يلاحظ المسيري، ظهر أنّه يمكن تحقيق هدف (تطهير الفلسفة من كل القيم والثوابت والإحساس بها جميعاً) عن طريق تطبيق نماذجها العضويَّة على المجال الإنساني، وقد جاء (داروين) صاحب الغابة الشهيرة (وهي كيان عضوي ويرد الى مبدأ واحد كامن في المادة يسمى الحياة) ويعبر عن نفسه عبر صراع دائم من أجل البقاء، بقاء لا يحققه إلا الأصلح أي الأقوى.
إنَّ هذه المفاهيم الصراعيَّة التي تجسدها إرادة القوة وموت اليقينيات وتراجع الأخلاق وسيادة فلسفة نيتشه التبريريّة للغزو والاستبعاد، واللا تسامح، وبالنتيجة اللا إنسانية والشوفونية التي اشتق لها نيتشه رقعة في حقل اشتغالاته هي مركز الكمون المتحكم في تطور فلسفته، فالأخلاق في تصورات نيتشه، كما يلاحظ المسيري، هي معايير صنعها الإنسان لهدف معين، وفي وسعه أن يبدلها إن شاء ويضع لنفسه هدفا آخر، فالأخلاق مرتبطة بالنتيجة وبالفعل، أي أنّها هي الحلقة الأخرى في السلسلة المتلاحقة ـــ وهذا هو جوهر الفلسفة البراجماتية والميكافيلية.
يطرح نيتشه رؤيته لأصل الحضارة والأخلاق، فيبين أن الحضارات الكبرى قد نشأت جميعاً حينما ظهرت طائفة من الارستقراطيين الممتازين، على شكل حيوانات مفترسة شقراء، كانت تجوب الأرض في آسيا وأوروبا وجزر المحيط الهادي وتغير على كل الأراضي التي تمر بها، ولذلك فإنّ نيتشه يكره فكرة قبول الآخر عادّا إيّاها مجرد إذعان لإرادة القوة المنتصرة وليس فعلاً
عقليّاً.
 في هذا النطاق تتراجع أخلاقيات التسامح وتظهر نزعة الإقصاء والاستعباد والهيمنة والنقاء العرقي وتبرير الاستعباد والإزاحة والاستلاب، فالمسيري يلاحظ انحياز نيتشه للقوة وإرادتها التي يمتلكها الأبيض وصاحب العرق النقي، ولذلك فهو ينحاز بقوة للنازيّة والصهيونيّة بوصفها تيارات علمانيّة، ولذلك فإنّ المسيري يخلص الى أنَّ مفاهيم نيتشه تمثل الأساس الكامن وراء ظهور مفهوم العلمانيّة وظهور الحركات الاستعباديّة التي طورت داخل مجال العلمانيّة، إذ يؤكد أنَّ (اسبينوزا ودريدا ونيتشه) أهم فلاسفة العلمانيّة المادية، وما يتخارج عنها من مفاهيم تبرر الهيمنة والاستعمار وإزاحة الآخر والسيطرة عليه واستعباده، من منطلق إرادة القوة والبقاء للأصلح، وان معظم الفلسفات الغربيّة التي ظهرت في القرن العشرين (بما في ذلك الصهيونيّة والنازيّة خرجت من عباءة نيتشه، وأن فكر ما بعد الحداثة بكل تياراته هو امتداد لمنظومة نيتشه الفلسفيَّة وقد تأثر كثير من المفكرين اليهود من الصهاينة وغيرهم بفكر نيتشه ورؤاه التي ترشّحت عنها تلك الأنساق
الشوفينيّة.