جدليَّة المسرح

ثقافة 2024/01/18
...

 د. علاء كريم

الجدليَّة اصطلاحا هي إلزام الخصم، وإقحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان، فإن كان الجدلي سائلا معترضاً، كان الغرض من الجدل إلزام الخصم وإسكاته، وإن كان مجيباً حافظاً، كان الغرض منه أن لا  يصبح ملزماً من الخصم. وعرف (باشلار) الجدليَّة «بأنها عملية تصحيح الأخطاء السابقة، فمن دون هذه الأخطاء يفقد الجدل المعرفي خصوصيته». وهو من ثمَّ مفهوم فلسفي يدرس المتناقضات الفكرية والمادية، ويسعى إلى وجود حلول علميّة من شأنها الفهم وفي الوقت نفسه إيجاد الحلول المناسبة لتحقيق المفاهيم الواضحة.
منذ القدم ترتبط الجدليّة بالمنطق والفلسفة، وشكلت بدايتها عند المجتمع اليوناني، بأن يتقابل نقيضان في آن واحد، ويعود ظهور الجدل إلى الصراع القائم بين الفلاسفة من ناحية المادة والوجود، وأكد ذلك (ارسطو) عبر منطق الابتعاد عن مفهوم التناقض، ليتعرض إلى النقد، ويأتي من بعده (هيجل) الذي يؤكد بأنّ الجدليَّة قد بدأت بمسار حقيقي، وهي تعد أول منهج فلسفي لدراسة الظواهر الطبيعيَّة، ليتبنى المسرح الجدليّة، وتكون من اساسيات مسرح الحداثة وما بعده. وعند الماركسيين، الجدليّة هي التوفيق بين مثالية (هيجل)، ومادية (ماركس)، لأنَّ التطور الجدلي عند هيجل هو تطور الفكرة، أما عند (ماركس) فهو تطور المادة.
وعديدة هي العروض المسرحية التي تقدم في أمكنة مختلفة، وفي مناسبات ومسمّيات متعددة، فهي ترتبط بجدلية الزمان والمكان، وأيضا بالجوانب الحياتيّة للفرد، مما يؤكد ذلك على حضور المسرح وبقوة رغم التحولات والمتغيرات التي تواكب التطور بشكل عام. رغم ذلك فهي، أي العروض المسرحية لا تخلو من الاخفاقات بجوانب مهمة منها تطبيقيّة وأخرى تنظيريّة، ومنها ما يرتبط بالقراءات المسرحيّة والوقوف عند رأي أو استنتاج يمكن من خلاله نفي بعض الرؤى والمفاهيم من دون الرجوع إلى مرجعيات علميّة أو معرفيّة، فالاستنتاج من دون الرجوع إلى مصدر هذا بحد ذاته اشكالية تحتاج إلى معالجات من أجل تحديد كل ما يطلق عن المسرح ومسمياته والوقوف عندها.
 المسرح اليوم من العلوم المهمة والتي شكلت مساحة مؤثرة داخل اغلب الجامعات العالمية والعربية ومنها العراقية، لذا أرى التخصص، وايضا القراءة والمتابعة تجعل من الفنان المسرحي وحتى المهتم بهذا الفن، يتفاعل ويدخل عوالمه الجمالية من دون قيد أو شرط، لكن الدخول إلى عوالم المسرح بشكل عشوائي افتراضي، يختلف عنه إذ تتبع المسرحي أو المهتم بهذا الفن الأطر المنهجية وتحولاتها التي تواكب التطور التقني والمعرفي، وبعيداً عما يتعرض له المسرح من اجتهادات تؤثر في مفاهيمه التكوينيّة، وتغير من تصورات التعبير المرتبطة بالمجتمع، فضلاً عن ابتعاد الجوانب الثقافيّة وحاجات المجتمع المعرفيّة، المرتبطة بتنمية قدرات الموهوبين وتمكينهم من ترسيخ مسرح متطور بأدواته المعرفيّة والتقنيّة، وللإسهام في دينامية الحركة المسرحية المستقبلية.
 كما أن الاهتمام بالجانب المعرفي يساعد الفنان المسرحي على تبادل الأفكار بما يخدم تجربته، التي من خلالها يمكن له أن يعمل على تنمية الخلق الإبداعي، أي أنّه يلعب دوراً أساسياً في إحاطة فنون المسرح بالأطر المهنيّة والدراسات وفق التخصصات الأدائيّة وما ترسمه من تعبير أو تشكيل، تتيح لمنظومة التلقي أن تؤثر في نوع المنتج الإبداعي، فضلاً عن منظومة التلقي على المستويين الجماهيري والنقدي.
ومن ثم علينا، استنباط المعلومات الدقيقة والمفصلة من الناحية التطبيقيَّة واعتماد مخرجات العرض المسرحي، من دون إغفال القيمة العلميّة للمعرفة النظريّة، فـ «المهرجانات» المسرحية بشكل عام لا تصنع فكراً ولا تساعد على التطور المعرفي، ولا تعطينا الصلاحية في التنظير، أو التقليل من قيمة الآخر، بل هي مساحة ترفيهيّة قد تكون تجربة يستفيد منها المشارك، لكنّها لا ترتكز إلى الفرضيات والوسائل المنهجيّة. وهذا قد يرتبط بالمتغيرات المعرفيّة، وظهور الدراسات اللغويّة والفلسفيّة ونشوء نظرية القراءة والتلقي التي أعادت الاهتمام إلى متلقي الخطاب المسرحي، فضلاً عن مبدعه، وفي مقدمة منظري هذه النظرية الألماني «هانز روبرت ياوس». وهناك أيضا فلسفات اهتمت بالمعنى، منها: الفلسفة «الظاهراتية» لدى (ادموند هوسرل) الذي يؤكد فيها على المعرفة عبر المقوم الذاتي، الذي يعمل على إعادة الصلة بين الذات والأشياء لإنتاج المعنى، وتطور هذا الرأي ليؤسس نظاماً معرفيّاً يعمل على تحويل الوعي الذاتي المباشر الى معرفة فلسفيّة أو ما يسمّى عند (هوسرل) بالقصديَّة وتعني الخاصيّة التي تنفرد بها التجارب، ومن خلالها يفهم المتلقي المعنى كـ «ظاهرة» تتكوّن كليّاً في الوعي، وهذا قد يسند القارئ عبر ما تمّض طرحه بمعنى الخطاب المكتمل بعيداً عن المنطق
التأويلي.
وعليه، لا يمكن إطلاق رأي أو تعميم فكرة عن المسرح وتحولاته، من دون الرجوع إلى أسس علميَّة أو صلاحيات تطبيقيَّة، كما لا يمكن أن نعتمد استنتاجات تفتقر إلى المعرفة التي لا يمكن حصر قراءاتها في التجارب التطبيقيّة التي تلامس الواقع، وفي حقيقة الأمر تحتاج المعرفة إلى آراء علمية تستند إلى مصادر وتنحصر في جمع المعلومات لأجل التطوير الفكري والثقافي، بعيداً عن الآراء الافتراضيّة.