ياسين طه حافظ
حين كتبت في أسبوع مضى، عما يمكن أن نخسره من تراثنا بعد كل الذي خسرناه، وأشرت الى تعابير ومفردات. ما أردت الاحتفاء بتعبير درسَ، ولا بمفردة هجرت، ولا بصيغة بطل استعمالها وخرجت عن لغة اليوم. أنا أعلم أن اللغة ابنة الحيوية الاجتماعيّة وهي تبتدعها أو تهملها. ما يقرر ذلك حاجة الأحياء، المتكلمين باللغة، قد يدفعون لغتهم لأن تستضيف مفردات وألفاظاً من لغات أخرى. أو هم يولدون أو يفضلون بقاء أخرى قديمة عاشرتهم قروناً..
ما قصدته في المقالة، هو مفردات درسنا اللغوي واهمال مسيرة التعابير والمفردات، تطورها، أو تضاؤل حضورها أو تحوّرها إلى ما هو قريب منها أو مختلف عنها.
ولذلك لست مع الأجلاء الذين يشيرون لتصويب استعمالات اليوم بأوامر انضباطيّة مثل "قل ولا تقل".
لست وليس الأحياء ملزمين بأن يقولوا كما قال أسلافهم قبل قرون.
حاجاتي اختلفت، مزاجي اختلف، ذائقتي لموسيقى الحرف اختلفت، فمي اكتسب أو خسر مرونات حركة أو طرائق لفظ أو نطق... وليس هذا بجديد - فحتى السلف أنفسهم، بعضٌ لفظ الهمزة عيناً والقاف غيناً، وبعض أبدل السين صاداً والصاد سيناً، فضلاً عمّن أشار للجمع بالمفرد وأنث المذكر وأعطى المذكر حكم المؤنث، ومن عدّى فعلاً لازماً، وبعض رفع ما حكمه النصب وكسر ما حكمهُ الرفع... هذه ليست أخطاء، ولكنها تقع ضمن خط نمو، أو تطور أو تحولات اللغات وأثر البيئة اللغوية حولها.
ونحن على علم باللهجات العربية في الجزيرة وهي متزامنة، ونعلم باللغات المحلية المتعددة في المدن أو المقاطعات العربية وفي المقاطعات الايطالية والانجليزية ولنا أمثلة قريبة في اللهجات أو التنوعات.
قد تكون بينها قربى، وقد تكون متباعدة تفصلها أو تفصل بين ناسها، تضاريس.
اللهجات ليست فقيرة، ولا ضعيفة، ولا بغير قوة مدَّخرة.
كل تملك طاقتها وبانتظار أن تجد فرصتها في التطبيق الأوسع.
القرآن الكريم رفع منزلة "لغة" قريش فتفجّرت طاقاتها التعبيريّة وسادت.
وحين كتب دانتي ملحمته باللغة التوسكانية، لم تردعه اللاتينية القوية شبه الحاكمة ولا لغات الولايات، أو الأقاليم.
كتب بالتوسكانية أيضاً بترارك وبوكاتشيو (وقد كتب الأخيران بسواها) فامتلكت التوسكانية نظامها وتمنهج معجمها وازدهرت بمنجزاتها وسادت ايطاليا كلها!
اللغة تعيش عمراً أطول من سواها، وتظل فاعلة مؤدية لمدى أوسع، كلما احتاج لها مجتمعها والمجتمعات المجاورة فالأبعد، تجارة أو مواصلات أو غزوات أو طوارئ بيئيّة توجب التقارب أو التعايش.
لا أحد يتخلى عن لغته بغير سبب.
حتى الرغبة في التواصل أو مخاطبة مجتمعات لها لغة أو لغات مختلفة، وراء ذلك حاجة للتعبير عن الذات أو لتواصل اجتماعي أوسع.
وهذا هو ما كان وراء كتاب عديدين كتبوا أعمالهم، أو بعضاً منها، بلغات أوسع مدى عالميَّاً.
لغتك دائماً تكفيك إلا أذا تطوّرتَ واتّسعت احتياجاتك وبقيت هي في حدودها.
وهذا علميَّاً لا يحصل، لأنَّ تطور الفرد يتم من خلال تطور مجتمع، وتطور أي مجتمع يطوّر لغته، أو تتطور لغته معه، حتى تستجيب لاحتياجاته الجديدة.
نعود للسؤال الذي افتتحنا به كلامنا، لماذا إذاً الاشادة أو الاهتمام ببعض مما في لغة العجّاج، ولماذا اسهبت في الاهتمام بها وهي لغة ما عاد كثير من مفرداتها مقبولاً أو مستساغاً؟
الجواب، الاهتمام كان ذا شقين، الأول أننا لا نرى لغتنا اليوم، أو عربيتنا اليوم مكتملة، أو أننا نراها دون ثراء كافٍ، وأنّنا، في أحوال، نبحث عن مفردة لنقول شيئاً.
ومن المفردات القديمة عديد يسعفنا بجدارة تعبيرية كافية وبلفظ لا يخلو من خفة ولطف فضلاً عن أن له حضوراً، وإن محرَّفاً في اللهجة، أو يقبع بعيداً بسبب من جهلنا أو هجرانه.
ذلك لا نتيجة تطور لغتنا ولكن نتيجة عدم اكتمال استقرارها ونضجها، ولا اقول عن بعض الفقر فيها.
عربيَّة اليوم تقع تحت مؤثرات لغات تقترب منا كل يوم أكثر ويزداد حضور هذه اللغات في التجارة والتعاملات والترجمات والنشاطات الثقافيّة وفي المعاملات والمصالح الاجتماعية المتبادلة.
لا قوة تستطيع صد هذه المؤثرات أو منعها.
حتى في حال خضوع المفردة للتعريب- أو تحريفها على وفق الاشتقاق العربي، تظل اجنبيتها حاضرة وتظل "معرّبة".
أما التعابير الأجنبية فيزداد حضورها على الألسن، بل حتى في التداولات الثقافية.
وفي المنجز الأدبي، فضلاً عن العلمي وما يتبعه.
تماس اللغات ظاهرة سليمة وليست عدوى داء.
وما أردنا قوله هو أن عربية اليوم في حال تغيّر أو تطور وحضور مفردات كفوءة من ذخيرتها مفيد ولا يشكل عيباً.
مفردات انجلوسكسونية ومن جوسر حاضرة في الأدب الانجليزي الحديث وصيغ قديمة حاضرة حتى في الشارع، ولا غربة لها في لغة الاكاديميين والنخب.
المسألة الثانية التي قلت لا نريد أن نخسرها، هي الثروة "العلمية" في تاريخ اللغة، في مضمون المفردات، وتاريخ المجتمعات القديمة عيشاً واذواقاً وطباعاً ومواجهات يومية وثقافة.
لغة شعرائنا وكتابنا القدامى الشفاهية الموروثة أو النصّية هي مكتبات ومتاحف، يمكن أن نلجها بصبر وباهتمام لنخرج ببحوث مهمة وبدراسات عن أُمة نظن أنّها مضت ونحن نحسُّ بضوضاء حضورها وإن خافتة، ونسمع أصوات ناسها في صمتنا العميق أو ونحن نفكر ونكتب.