تهجين التاريخ في روايات السيرة الغيريَّة

ثقافة 2024/01/24
...

  أحمد الشطري

ترتبط كتابة سيرة الأشخاص بالتدوين التأريخي، إذ تمثل صورة تاريخية لشخصية مهمة ذات فعل تأثيري، ومثل هذه المدونات لا نبالغ إذا ما قلنا إنها ارتبطت مع ظهور الكتابة الأول، سواء بسيرة مجتزأة أو بسيرة كاملة، وهذا ما تؤكده البحوث الأركيولوجية، ولعل سيرة الرسول محمد (ص) التي عرفت بالسيرة النبوية لابن هشام المتوفى عام (213هـ)، هي من أشهر السير الغيرية في اللغة العربية، ومثل تلك السير التي تقدم الوقائع المستندة إلى الأسانيد المحققة، هي في الواقع تنتمي إلى التاريخ وليس إلى الأدب.

ومع ظهور الرواية بفضاءاتها المتخيلة وما شهدته مسيرة تطورها من انفتاح على مواضيع متعددة وتقنيات متجددة، ظهرت ما سميت بالسيرة الغيرية أو شبه السيرة أو التاريخ المتخيل؛ لتقدم لنا صورة تاريخية بعيدة عن الواقع أو الوقائع الحقيقية للأشخاص، مقترحة واقعا مغايرا متخيلا مع الاحتفاظ بالشخوص الفاعلين جزئيا أو كليا.
إن موضوع انتماء السيرة بنوعيها الذاتية والغيرية إلى الأدب الروائي، أمر لا ينسجم مع الشرائط التقنية للرواية- كما أرى- فالرواية جنس يرتكز على التخييل حتى لو كان يحاكي الواقع كما في الروايات الواقعية، لأن مادتها سواء على مستوى الحبكة أو على مستوى السرد، هي عملية خلق لواقع أو وقائع تستبطن الانزياحات الخيالية، ومن ثم فإن وسم السيرة الغيرية والسيرة الذاتية بالرواية هو من باب المجاز، أو هو تصنيف اعتباطي ينطوي على تجاوز مؤكد على القواعد الفنية للرواية.  
وكلامنا هذا لا يعني نفي وجود رواية السيرة الذاتية والغيرية، بل إننا نرى وجوب إخضاع (السيرة)، إذا ما أريد لها أن تدخل تحت مسمى الرواية، إلى الشرائط الستراتيجية والتقنية للرواية، بمعنى أنها يجب أن تبني واقعا متخيلا سواء احتفظت بواقعية الشخوص أو وضعتهم في أقنعة معينة.
إنَّ أهم ما يميز روايات السيرة الغيرية (Novels biographical) أنّها تقدم لنا عوالم متخيلة بشخوص حقيقيين، ومن خلال هذا التهجين تضع المتلقي في دائرة الشك بين واقعية الأحداث وعدمها، وهو ما يضع تلك الروايات أو يقربها من توصيف روايات الميتافكشن.
إن عملية تحبيك المتخيل التاريخي أو الواقعي يمكن أن تمنح الرواية فضاءات متعددة المعطيات، سواء كانت معطيات جمالية أو رمزية أو فنية، تضفي على العمل الروائي الكثير من التشويق والإغراء والجذب.
وكثيرا ما توصف هذه الروايات بأنها تأريخ مهجن، لأنها تجمع بين الواقع ممثلا بشخوصه، والسيرة المتخيلة بحوادثها الكلية أو الجزئية، ومن المؤكد أن هذه الصفة ليست من باب القدح، وإنما هي من باب التوصيف التقني للحبكة.
ومن المهم أن نشير إلى أن هذه الروايات لم تسلم من الانتقاد في ظهورها الأول في الأدب الأوربي في ثلاثينيات القرن الماضي، ولكنها من جانب آخر حققت نجاحا كبيرا وأصبحت ذات رواج واسع على مستوى القراء؛ لما فيها من قوة إغراء وإدهاش من خلال أجوائها وأحداثها المتخيلة.
وكان من أهم روادها الإنكليزي روبرت جريفز (Robert Graves)   في روايته الشهيرة (أنا كلوديوس)، وهي سيرة للإمبراطور الروماني كلوديوس، وتحكي تاريخ سلالة جوليا كوديان والسنوات الأولى للإمبراطورية الرومانية، وهي رغم اعتمادها على بعض المدونات التاريخية، إلا أنها جمعت بين الخيال والواقع، وقد لاقت رواجا وشهرة كبيرة في أول صدورها عام 1934م، وكذلك الألماني توماس مان (Thomas Mann) بروايته الرباعية (يوسف وإخوته) التي جمع فيها ما جاء في سفر التكوين من قصة النبي يعقوب والنبي يوسف وإخوته، وما اختلقته مخيلته من أحداث، وقد اعتبرت هذه الرواية من أهم أعماله الروائية، وكذلك الأمريكي إرفينغ ستون (Irving Stone) الذي عرف بكتابته عن حياة الفنانين، وكانت من أهم رواياته (شهوة الحياة) عام 1934م، التي استثمر فيها حياة الفنان فان كوخ، وروايته الأخرى  (العذاب والنشوة) الصادرة عام 1961م عن حياة الفنان مايكل أنجلو. ومن روايات السيرة الغيرية الحديثة رواية شقراء Blonde)) للروائية الأمريكية جويس كارل أوتس (Joyce Carol Oates) الصادرة عام 2000م، والتي حققت أكثر نسبة مبيعات في أمريكا. وهي عبارة عن سيرة متخيلة لحياة النجمة السينمائية مارلين مونرو.
ومن بين أهم نماذج السيرة الغيرية في أدبنا الروائي العربي تبرز رواية اللبناني أمين معلوف (ليون الأفريقي) الصادرة عام 1986م باللغة الفرنسية، وتتخذ هذه الرواية من السيرة المتخيلة للمؤلف الجغرافي (الحسن بن محمد الوزان الفاسي) الذي عاش في القرن التاسع الهجري مبنى حكائيا لها، إذ تتناول حوادث متعددة بدءا من مولده ومرورا بسقوط غرناطة إلى نشوء الدولة العثمانية.
وتمثل رواية (جبل قاف) لعبد الإله بن عرفة الصادرة عام 2002م نموذجا آخر لرواية السيرة الغيرية، إذ تتخذ هذه الرواية من شخصية ابن عربي محورا لأحداثها، راسمة سيرة متخيلة لمسيرة حياته وتنقلاته مع توظيف لبعض مقولاته، مع محاولة ذكية من الكاتب لاستخدام لغة يقترب أسلوبها من أسلوب ابن عربي.
ومن النماذج الأخرى لهذا النوع هي رواية (العلّامة) للكاتب المغربي بنسالم حميش، التي تتخذ من شخصية ابن خلدون محورا لأحداثها، مازجة بين السيرة المدونة والسيرة المتخيلة في إطار درامي مشوق.
أما في أدبنا الروائي العراقي، فيمكن أن نشير إلى رواية (منازل الحارة 17) للروائية رغد السهيل، التي رسمت فيها سيرة متخيلة للشاعرة الإيرانية فاطمة الباراغاني الملقبة بقرة العين، وهي أبرز دعاة الحركة البابية في القرن الثامن عشر الميلادي.
والنموذج الآخر هو رواية (عالم صدام حسين) لكاتب مجهول تقَنَّع باسم (مهدي حيدر)، التي يقدم لها المؤلف بقوله: «هذه الرواية ليست نصًا تاريخيًا بل هي عمل من نسج الخيال، يستغل الواقع لبناء عالم خيالي موازٍ للعالم الواقعي، يتطابق معه أحيانًا ويختلف في أحيان أخرى، فتعطي شخصيات معروفة مصائر مختلفة عن الواقع التاريخي بحسب ما تقتضيه الحاجة الفنية. يؤكّد المؤلّف المجهول أنّ كلّ اختلاف أو عدم شبه بين الرواية والواقع هو أمر غير مقصود».
ما ذكرناه من روايات هي نماذج مختارة، لترسم لنا صورة ولو مبتسرة لهذا النوع من الروايات وليست عملية حصر أو أحصاء بكل تأكيد.