عينُ الشَّاعر اللاقطة

ثقافة 2019/05/22
...

محمّد صابر عبيد  
 
 
 
الفرقُ بين عين الشاعر وغيرها أنّها واسعة جداً لترى أبعد وأعمق وأدقّ ممّا يجب على العين العاديّة أن تراه، بما تمتلكه عين الشاعر من أدواتِ رؤيةٍ ورؤيا تساعدها في النفاذ إلى أعمق أعماق الأشياء مهما كانت دقيقة ومعتمة، وتحويل حساسيّة الالتقاط إلى كاميرا ملوّنة بعدسات مختلفة تجتهد في تلوين الحروف والأصوات والجمل والصور واللقطات والمشاهد، وتشحنها ببلاغة لافتة يتأسطر فيها المهملُ والثانويُّ والصغير والناتىء وقليل الضوء كي يتحوّل إلى قصيدة تنتظم فيها الأشياء وتتّحد وتتلاءم وتستوي وتستقيم.
مجموعة الشاعر نامق سلطان الموسومة (مثل غيمة بيضاء) تستثمر لقطة العنونة كي توسّع عين الشاعر اللاقطة لترى الأشياء المشبّهة بغيمة بيضاء وما يحيط بها من فضاءات بعينٍ ثانيةٍ، في سياق شعريّ يأخذ من صورة (غيمة) الكثير من المطر المخزون المقترح المعلّق في ذاكرة السماء، ومن صورة (بيضاء) الكثير من الليونة والنقاء والصفاء والموسيقى والرحابة والوضوح والبساطة وما يحيل عليه اللون الأبيض من دلالات ورموز وإحالات، لتكون تشكيليّة (غيمة بيضاء) ذات بُعد دلاليّ يتعدّى الصورة ويدخل في إطار معنى شعريّ يتوسّع شيئاً فشيئاً كلّما انفتح متن القصيدة على مساحات شعريّة 
مضافة.
الدخول في قصائد المجموعة يكشف فوراً عن هذه الآليّة التي تنهض على استشعار الحالة الشعريّة ومحاكاتها، وتحويلها إلى حياة مكتظّة بالحكي الشديد الاختزال والرهافة بحيث لا تشعر بوجود حرف زائد لا يؤدي وظيفة دقيقة في مكانه الطبيعيّ المناسب، كي تشبّه القصيدة بعمارة فنيّة باذخة تنهض على جهد هندسيّ جماليّ بسيط في عمقه وجماله وعميق وجميل في بساطته وعذوبته، الشعر الحاضر في هذه القصائد هو (غيم أبيض) يقابل في إحدى غزواته المرأة الغائبة التي هي (غيمة بيضاء) في عُرف التأنيث:
هي خفيفةٌ مثل غيم أبيض
لا يسقط على الأرض أبداً
ولا يسدّ الطريقَ على الطيور
إذا ما أرادت أن تحلّق عالياً
           * 
هي معي حيث أكونُ
في هذا العالم
الذي لا يستقيمُ أبداً
لذلك أشعرُ بالضجر من الآخرين
الآخرون مشغولون بأشياء كبيرةٍ
بينما أنا أحاول أن أتعلّم
كيف أمشي على الحصى
وأغنّي في الوقت ذاته
وأدرّب نفسي على النسيان
الكلام الشعريّ يُشعرك باختلافه من الجملة الأولى لأنّه مشحون بتشكيل لغويّ وصوريّ وإيقاعيّ مثير للانتباه والإعجاب والإبهار، كلامٌ مملّحٌ مبهّرٌ يُغري بالتناول والتداخل والتفاعل والأخذ والقراءة والتحليل والتأويل، يفرز شبكة من العلاقات المباشرة المضمرة بين الدوال في حركتها وسكونها، ثباتها وتحوّلها، وهي تؤلّف معجماً لسانياً بدوائر قريبة ينفتح بعضها على بعضها بآليّة خاصّة ونوعيّة (غيم/أبيض /الأرض/ الطيور/ العالم/ الضجر/ الآخرون/ الحصى/ الوقت /النسيان)، في ظلّ حراك فعليّ يدور حولها مرّة، ويخترقها مرّة أخرى، ويكوّن لقطات صغيرة تذوب في لقطات أكبر منها، وأكبر، حتى تنتهي إلى بنية نصيّة متكاملة يتجلّى المشهد فيها ليحكي قصّته ويعبّر عن 
فكرته. 
ثمّة حكي سرديّ وحكي آخر شعريّ، وإذا كان الحكي السرديّ ينتشر على مساحة قوليّة شاسعة ابتداءً من الثرثرة البسيطة وصولاً إلى جنس السرد بأنواعه المتعدّدة والمتنوّعة، وهو يؤلّف باستمرار مساحات تتجلّى على أرضها طاقة هذا الحكي وتحفّز أطراف العمليّة السرديّة التقليديّة من راوٍ ومرويّ ومرويّ له على التكاتف والتلاحم، فإنّ الحكي الشعريّ ينزاح باتجاه نظريّة مغايرة في صوغ الكلام وصناعة الفضاء النوعيّ الذي يتفاعل فيه الشعر مع السرد، ضمن تشكيل يتبدّى الراوي الشعريّ فيه وهو يسرد الحكاية داخل مرجل شعريّ يتقصّد الإبلاغ في مستوى رئيس من مستويات القول، لكنّه في الآن نفسه يتحلّى بحساسيّة شعريّة كلاميّة تُخضِع الحكي أخيراً لفضاء الشعر على حساب فضاء السرد، على الرغم من أنّ الفصل بين الفضاءين تحت ضغط الحكاية الصافية ليس سهلاً سوى أنّه يفرّق بين أدائين فنيين 
مختلفين.
النسق الحكائيّ الشعريّ في هذه القصيدة لا يستجيب لفاعليّة الثرثرة القوليّة التي تتميّز بها فنون السرد لتصل إلى ما تريد، بل ثمّة انضباط كلاميّ يسيّر النسق على سكّة صوريّة وإيقاعيّة تلتزم النظام الشعريّ وتعبّر عن آليّاته داخل رؤية بلاغيّة تقصّ أجنحة الثرثرة، ولا تسمح لها بالتحليق طويلاً في فضاء التشكيل الشعريّ وهو يتعمّد استحضار أفعال الحكي في محيط دائرة شعريّة تغلّب الكلام على القول
، ولا تذهب نحو العناية بالتفاصيل والإجراءات والتكوّن المتنامي لحركيّة العناصر السرديّة بحريّة كاملة، بل تكتفي بإثارة غبار الحكي داخل فضاء شعريّ غيميّ تحرسه (غيمة بيضاء) لا تروي غير ذاتها ليس بعيداً عن حضن الراوي الأليف، في سياق التفريق بين الفضاء الشعريّ والفضاء السرديّ مهما توغّلت القصيدة في أرض السرد بخضرتها ومياهها وأنوثتها، مثلما فعلت قصائد نامق سلطان في هذه المجموعة الشعريّة وهي تنشغل انشغالاً كبيراً وعميقاً وواسعاً في فضاء سرديّ كثيف
، من دون أن تنسى أنّها تعمل عملاً شعريّاً تنتهي فيه إلى بناء فضاء شعريّ يستعين بعناصر الحكي ثمّ ما يلبث أن يسرّحها بعد انتهاء دورها على مسرح القصيدة، مكتفياً بما يتبقّى من غبارها السرديّ المجمّل للصور والتشكيلات التي ينتزعها الراوي الشعريّ من محيطٍ سيرذاتيّ مثقلٍ بها على نحوٍ لا يمكن 
إغفاله.
السكون الشعريّ الذي يبدأ به نامق سلطان في رواية قصائد (مثل غيمة بيضاء) يُنتِج حراكاً داخليّاً لا يُحسنُهُ السكون السرديّ حين يتجلّى في فضاء قصصيّ أو روائيّ، وذلك لاختلاف المقصد الفنيّ والتوجّه الجماليّ بين الفضاء الشعريّ والفضاء السرديّ القصصيّ أو الروائيّ، ويمكن معاينة هذا المقطع الشعريّ المشبع بالحكي داخل أسوار الشعر لا السرد:
اليومُ 
كالأمسِ
لم أفعل شيئا مهمّاً
لم أستقبل أحداً
ولم أودّع أحداً
الكتابُ الذي تركته على الأريكةِ
مازال في مكانه
وشجرةُ التين في الحديقةِ
على حالها 
حتى ضوءُ الشمس من النافذة
لم يتغير
ولا الساعةُ على الجدار
ولا صورتي، وأنا جالسٌ على صخرةٍ
قرب النهر
لكنْ، من الذي التقط الصورة 
قبل ثلاثين عاما؟
والذي يقف بجانبي
أين هو الأن؟
نظام الصوغ الحكائيّ من بداية المقطع حتى نهايته يتحرّى التركيز على فعاليّة التشكيل الحكائيّ بزخم واضح يستقطب عناصر الفضاء السرديّ المعروفة كافّة، لكنّ هذا النظام يُزيح تراكمات الثرثرة السرديّة ويختزلها إلى أقصى حدّ إخلاصاً للمقصد الشعريّ الذي يتجلّى في الأداء والصورة والإيقاع وحساسيّة التركيب الكلاميّ على نحو أصيل، ولا شكّ في أنّ الاختبار هنا عسيرٌ للغاية لكنّ النجاح واضح وباهر بلا حدود.