سلطة القارئ.. حقيقة أم وهم؟

ثقافة 2024/01/28
...

 وارد بدر السالم

نعتقد بأنه من الطبيعي أن نقرر بأن سلطة الناقد لم تعد حاسمة للقارئ، كما كانت قبل أربعة أو خمسة عقود مضت بأسماء الكبار من النقاد العرب، من الذين لامسوا عصب النقد، وأسسوا لأذواق في القراءة غاية في الأهمية والجمال. وهذا الاعتقاد له ما يبرره على الصعيد الإجرائي الذوقي والنقدي، بين طرفين لا يستغني أحدهما عن الآخر. بل كانا من مكملات النص وبقائه وديمومته الإبداعيّة في الإشهارات التي تلي الكتابة النقدية وإجراءاتها المختلفة. وكان الناقد بحق سلطة عليا في فحصه للنصوص وتقويمها في زمن بقيت الكتابة الحبرية فيه بأعلى درجات اليقظة. وكان نوع الكتابة هو الذي يسود.
كانت تلك المشاريع النقديّة بعيدة عن القارئ وسلطته، بل كان تابعاً لها في الأحوال كلها. إذ كانت القراءة محسومة للنقاد، وتابعية القارئ له. ولا تؤخذ ملاحظاته أو استجاباته إلى النصوص فهو قارئ حسب. لهذا كان يتوارى خلف الكتابة عادة. فسلطة الخطاب النقدي كانت مؤسّسَة على الثقافة النقديّة واستيعاب مدارسها، وكان ممارسوها أفذاذاً في تشريح النص وتفكيكه وإعادة إنتاجه نقدياً. لهذا كان موت القارئ حتمياً بسيادة السلطة النقديّة آنذاك.
في عصر ما بعد الحداثة لا يمكن أن نبرهن بأنّ زمن القراءة الورقيّة قد انتهى أو أنه يحتضر أو في طريقه إلى الأفول. فما يزال حبر الورق الطباعي يستثير الكثيرين، بالرغم من التطور الإلكتروني، بتوفير حرية كافية للقارئ والاطلاع على المنجزات الثقافية العربية والعالمية، وهو يستدعي أي نوع من القراءة الرقمية، من دون الحاجة إلى الورق والأحبار والطباعة، وهذا التطور المستحدث هو ما ينبغي أن نلتفت اليه، ونرى موقف القارئ الجديد وكيف يتعامل معه. مع أن الزمن الورقي لم يقفل أبوابه بعد، بعد انفتاح الزمن الرقمي العجيب.
حتى النظريات الغربية التي توسعت في النقد الأدبي، لم تعد مجدية كثيراً في فحص النصوص الأدبية، فالمفاهيم الرئيسة تغيرت في العصر الإلكتروني الجديد، وانفتاح الفضاء السيبراني قد منح القارئ أفضلية واضحة في تقرير مصائر الكتابات في الرواية والقصة والشعر وسواها من الفنون الأدبيّة، من دون الرجوع إلى الناقد ومؤشراته النقدية القائمة على نظريات وتنظيرات متعاقبة، أو الرؤية الجمالية له في استدراك النصوص وفحصها وتقييمها. لهذا فأن مثل هذه المرجعيات التقليدية ستنفع في الدراسات الأكاديمية، كونها تؤشر مرحلة من مراحل صيرورة النقد الأدبي. وأرشيفاً ادبياً لا مفر من الإقرار به، كونه مؤشراً على مراحل متباينة في النظر إلى النصوص الأدبي. بما يعني أن مرجعيات القارئ أصبحت مرجعيات ذاتيّة وليست كالمرجعيات النقدية السابقة، بل تتدخل فيها جماليات القراءة والوعي الشخصيّ للقارئ. وهذا نتيجة من نتائج شيوع الإلكترونيات والمواقع الأدبية الكثيرة التي استعاضت عن الجريدة والمجلة، متجهة إلى أفق فضائيّ آخر. وهو أفق المستقبل بلا شك.
لم تعد كلمة الناقد الورقي ذات اعتبار في معايير سلطته القديمة، فالتعبير المفتوح والتشخيص الحر نقلت سلطة القراءة إلى القارئ، إذ لم يعد القارئ يهمه الهدم والبناء والتفكيك الذي نادى به “تودوروف” في بنيوياته النقديّة عن الشعر، ولم يعد القارئ الضمني يثير القراءة الجديدة، كونه صورة من صور الكاتب كما حددها «آيزر» في ثلاثيته عن القراءة. لكن يمكن أن يكون البنيوي رولان بارت الذي عدّ الناقد هو مجرد قارئ يعيد إنتاج النص، كون النص متراكباً من طبقات كتابية هي من مرجعياته الأساسية، وأنه يلخّص عدداً من الثقافات الداخلة في جوهر النص بفعل القراءة.
بارت يمكن أن يكون على قدر من الواقعية الرائية لمستقبل النص الذي نتحدث عنه. بمعنى أن يكون النص مستقلاً عن الناقد المنظّر والمحترف. وتتحول سلطة الناقد إلى سلطة القارئ أدبياً واجتماعياً، وعدّ النص مساحة جمالية لا علاقة لها بالآليات النقديّة المتوارثة، التي- في كثير من الأحيان- تصارع النص لكي تنتصر عليه، أو تشل حركته أو تُضعف من مستواه.
تقديراتنا الأدبيّة تتفق بأن المؤلف، سارداً أو شاعراً، ليست مهمته أن ينظر إلى الخطاب النقدي ويوافقه، وما عرفنا يوماً أن كاتباً ما، كتب على وفق النظريات الأدبية، بل يمكن أن يكون العكس تماماً، فالتنظير يعقب التأليف، بل حتى المنظرين النقديين الخام، يعودون إلى النصوص الأدبيّة، ويفرضون عليها سلطة حاسمة، وهو ما لا يتفق والمعايير الاستقلالية للنص. لذلك فسلطة القارئ، مع انفتاح العالم الإلكتروني الجديد بمعطياته الجبارة، يجب أن تكون سلطة نوعية وليست اعتباطية ومزاجية، فعالم هذه الفضاءات اللانهائية عالم ليس طبيعياً. يتجه إلى المستقبل ويحاول أن يطوي الحاضر بخطواتٍ سريعة، تمهيداً لصناعة رأي أدبيّ وثقافيّ قد لا نتقبله، كوننا من إمضاءات ورقية أدبية سابقة، ولكننا سنتقبله ونبصم على مشروعيته بيقين. لذلك فالقارئ الجديد ذو سلطة لم تتضح ملامحها بعد، وإن اتضحت سابقاً في نظريات التلقي ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة بالتنظير المحض، غير أن تواري النقد القديم جعل من سلطة القارئ بمنزلة القوة الجديدة التي ستهيمن على النصوص في آليات ليس فيها تنظير ولا نظريات نقدية، بقدر ما فيها من قوة إشهارية وإعلامية تتلقفها مواقع الكترونية كثيرة ونافذة في الحياة الأدبيّة. وهذا يستدعي الانتباه فعلاً.
نتساءل: هل مثل هذه السلطة هي سلطة حقيقية أم هي سلطة وهمية؟
وهل القارئ الجديد هو قارئ محترف أم ينتبه إلى الشائعة أكثر ما يحقق في مطالعته وقراءته في الأثر الأدبي الذي يقرأه !
سؤال كهذا حريٌّ أن ننظر إليه باهتمام، أمام انتشار الكتابات الرقميّة، وننظر إلى القارئ الجديد لا من زاوية إلكترونيّة حسب، إنما من وعيه لتلك الزاوية وثقتها بأن تصنع قارئاً أنموذجيا
 لا يُستهان به.