الشّعريات البيئيَّة

ثقافة 2024/01/30
...

 نجاح الجبيلي

شعر عادل مردان فضاء تسكنه الهواجس والبوح الكوني الأليم إذ تتوه القصيدة لديه في عوالم تتراوح بين التناسق والتنافر، وتغريه بمهمة الخوض في التجاريب الماضوية بلحظاته المضيئة والحالكة والانغمار في تهويمات الحاضر كما يشير العنوان الفرعي لـ «كتاب جامع الأصداف»، الحاضر المأزوم، إذ اللسان الملحي يحاصر المدينة «سالميتي»، وهو الاسم الأكدي القديم للبصرة فيتوعده «حالم أبدي»: (يشير بعصاه إلى الأفق/ متوعداً اللسان الملحي/ بجيل من محطات التحلية/ على خواصر السواحل).فالحياة لدى الشاعر تسافر في الأخيلة، وبعد أن يتحرر من وهمها يتذكر بأن السنة في نهايتها فيطري السنين صاحبة الحكمة التي صارت رماداً.  

إن توظيفه للحيوات والكائنات يدلّ على وعي متقدم في شعره عن طريق الخوض في رموز الطبيعة، وإضفاء نوع من الأنسنة على جماداتها، إذ يمتد نوع من الجذمور الذي يزرع المعنى في مكان قريب بعد أن أبعدته البلاغة المقررة وما يفرزه العقل من نسغ مبهم إلى أقصى الحدود.
فشعره يدعو إلى التفكّر والتأمل ويطرح أسئلة كونية لا جواب لها: (التأمّل/ ما يجب مزاولته على الدوام.. / التأمل/ دواء الزمن).فهو في قصائده، تقصّى الخيال، وخلق تهويمات أكبر له، وترك فجوات، وكتب سطورًا من شأنها أن تحمل أكبر قدراً ممكناً من التضمين المتضارب الذي يحمل الترسيمة الهيغلية ويشي بها: (تأمّل تهويمة التناقض/ أنا باذخ العطاء/ «كرمي في الأخذ»).
وكثيراً ما يتجلى في هذا الكتاب حسٌّ وتيار خفيان. وعلى الرغم من أن الصوت في القصائد قريبٌ وحادٌ، لكنه حميمي ومجروح ومكشوف أيضاً، حتى أنّ الملتقي يتساءل عما إذا كانت الكلمات كافية للبوح بهواجسه في نصوصه القصيرة.  
لم يكن الشاعر متوجساً من الكتابة عن الألم والخوف بطريقة غالبًا ما كانت تمزق نفسها، إذ لا خلاص وماء في أرضها اليباب: (أي مخلّصٌ يلوحُ/ تحت نير الأيام/ فصلٌ جهنّمي/ أكثر مما تدّخره الجحيم/ لا زمرّد في الخصب/ لا مطر يرحم الأرض).
 ورغم أن بعضاً من قصائده تبدو مؤكدة ودقيقة، إلا أنها مشككة وتحمل شيئاً من السخرية، وتشوبها نغمة  تثير الصدمة أو المفاجأة الحادة. لقد تحرّى الشاعر  شيئاً جديداً بدا حقيقيًا في لحظة واحدة. ثم يمكن لقصيدته أن تستقر في موسيقى أكثر هدوء ووضوحًا، بعد أن زمجرها الشاعر وجعلها مايسترو في حفلة الشعر. فالقصيدة لديه ذات نصوع خالص إذ من المثير للاهتمام افتقاد الفضاء الغرافي لها كالشرطات، والنقاط والفوارز والفواصل المنقوطة وربما جاء لحاجة تتطلبها القصيدة القصيرة. وهنا لم يطلق الشاعر عليها صفة «الهايكو» التي انتشرت كثيراً في هذه الأيام، وهي ليس لها أصل في التراث العربيّ من ناحية شكلها وثيمتها، لأنها شكل مستمد من الشعر الياباني، واعتزازاً من الشاعر بإرثنا الأدبي العربي.  
إنّ استكشافه للذات يمكن أن يكون طافحاً بما كان شخصيًا وحميميًا، لكنه محاط بتأثيرات بعيدة،  لم يكن في الغالب يعلن عنها بشكل صريح أو واضح. يمكن أن يكون الشخص الذي بصيغة الهو والذي يعد الشخصيّة الرئيسة مألوفًا. ولم يخش هذا الرائي من استلهام أعشابه لتعزيز الروح الخضراء و الصور البدائية للغابة والنور والظلام والشمس والقمر: (القرابة كونية/ ترشح الشمس ابنتها/ لشؤون الفلك).
لكن هذه القصائد الكونية لم تكن مجردة، بل تسكب رونقها في جذور الواقع وتراقبه من علو. يوظف عادل مردان شعره لكي يعبّر بحسّ إنسانيّ عال عن هموم الإنسانية وعذاباتها على المستوى المحلي، أو العربي مثل «حي الشيخ جراح» في القدس ومحاولات تهويده، واليورانيوم الذي سمّم سماءنا اللازوردية بسبب الحروب وسبّب الأمراض الخبيثة، كذلك وردت في قصائده أماكن تتعلق بأزمات عالمنا المعاصر، مثل المجدل نسبة إلى مريم المجدلية ومخيم الهول شمال شرق سوريا، والبحث عن مدن قديمة أصبحت لا مرئية وترد في متون الكتب مثل إيثاكا مدينة البطل أوديسيوس، والتي كانت محل إلهام للشاعر اليوناني كفافي، وزهرة المدائن رمز القدس.. ويلاحظ ورود لمقتطفات لم يشر إلى أصحابها وكأنه يدعو القارئ للتفاعل والاستجابة الواعية لها مثل (أقطعه وثبا) وهي جزء من بيت للمتنبي: (ذكرتُ به وصلاً كأن لم أفز به/ وعيشاً كأني كنتُ أقطعه وثبا).
أي عيش وشيك الانقطاع، كأني قطعته بالوثوب، وهو أسرع من المشي كإشارة إلى قصر أوقات السرور وسرعة زوالها، فضلا عن الاستعانة بمبدعين من التراث العربي، مثل النفري الذي يكرّس إحدى الأبيات له: (كتابٌ واحدٌ يشفي).
والمقصود طبعاً كتاب «المواقف والمخاطبات» الذي أثر بجيل كامل من الشعراء العرب الحداثويين.
وهذا يدل على نفي صفة الذهنية والغموض عن شعره، وأنه يهتم بما في ذاته ويجلدها ويجتر على أخطائها. فالهم الإنساني والكوني حاضرٌ دائماً في شعره.
وحين نتأمل في القصائد القصار نجد إشارته إلى الغربان الجائعة حين تذهب إلى جزيرة لسبوس وهي جزيرة الشاعرة الإغريقية سافو التي ألهمت الغرب بشعرها. أو في حفلة النشوة التي يضحك فيها الرائي الشيخ والمرأة بينما يثرثر فوقهم الغراب، فهما لا يتشاءمان منه بل ينخرطان في الضحك وهو بذلك يحدث انزياحاً في العرف الذي يعد الغراب دليلاً على البعد والبين: (الساحة نشوى/ شيخ الرؤيا يضحك/ المرأة تضحك/ والغراب يثرثر أعلى المدخنة).
نشأت الشعريات البيئية من الوعي بالبيئة في أواخر القرن العشرين والمخاوف بشأن الكوارث البيئية. نهج متعدد التخصصات يتضمن التفكير والكتابة في الشعريّة والعلوم والنظرية بالإضافة إلى التركيز على الأساليب المبتكرة المشتركة في الشعر البيئيّ. والقصيدة في هذا الكتاب ليست شعرًا طبيعيًا تمامًا، بل تقترح الانخراط - أو التناغم مع - عالم أصلي: عالم ديناميكي وغني ومصمم لسلسلة متواصلة من العلاقات المتبادلة، عالم مهمل و مفتقد نادرًا ما يتم تسجيله في موقفنا الطبيعي اليومي: (أترين كيف تهدّل الكيان/ يا عشيقة الكرنب/ ذاهبٌ إلى ماء (RO)/ خلاصة الوطن المُرّ).
 فالشعر هنا يفتح توضيحات في تصورنا العقلي للعالم، ويزودنا بمسارات جديدة للتحقيق، ويجعل عوالم أخرى ممكنة لتلك التي يتم تقديمها بشكل شائع لفهمنا. وهذه الشعريات البيئية تغني المضمون البيئي الذي يبحث في كيفية تواجد الإنسان في بيئته الطبيعية وممارساته التي يجب أن لا تعد الطبيعة عدواً يجب مواجهته بل صديقاً نبدي اللطف تجاهه لكي لا يؤدي تدخل الإنسان إلى خلخلة التوازن البيئي وحدوث الكوارث: (إنه جبل الذهب/ الفرات ينكفئ/ نواعير عطشى تلوّحها الشمس). وواضح من هذا المثال الإشارة إلى أزمة الجفاف التي تحيق بالوطن بسبب التغيرات المناخية.
تحث قصيدة عادل المُرسل إليه على الدخول في تناغم مع البيئة، لأن فلسفتها تنص على أن المعرفة متجسدة وليست موضوعية. هذه هي واحدة من المقدمات الأساسية للشعرية البيئية. إنه مستمد من منظور أنطولوجي يرغب في تصور الاختلاف أو الغيرية على أنه غير معارض؛ نحن نواجه تحديًا لرؤية الأشياء في علاقاتها. مثل هذا المنظور، يتوافق مع “الأبعاد الموحدة للوجود”، وهو دليل للوعي البيئي باعتباره “الترابط العميق مع الآخرين ومع الطبيعة بأكملها”: (الطبيعة تتذمر/ مياه سوداء).
وليس أدل من ذلك قوله في الابيات التالية: (لا ترافق الشعر عنوة/ أجلس تحت شجرة العالم/ فهي حكيمة الغاب/ وفي قلبها بلسم الروح).
إن الكثير من الثيمات التي تتعلق بفلسفة البيئة يجري تداولها مثل الطبيعة، والبرية، والانقراض أو نهاية العالم، وتغيّر المناخ واللسان الملحي، والغازات السامة، واليورانيوم، والفيروسات والأمراض (السيدا وكوفيد وماربورغ) والكولاجين، والليثيوم، والهورمونات، والأنزيمات، والمواد الكيمياوية، ونظام الكيتو الغذائي والروبوتات، فضلا عن الرعوية، والمياه، والأشجار، والحدائق، والحيوانات، والطيور والأعشاب، والمكملات الغذائية، والبلاستيك، والقنبلة النووية، والوقود، وحرائق الغابات، والكوارث البيئية.
وهذا دليل على قدرة الشاعر على تناول القضايا البيئية من خلال اللغة الإبداعية والشكل التعبيري. علاوة على ذلك، إبراز كيف يمكن للشعر أن يعكس وجهًا إنسانيًا وتجربة غنية وسط الكوارث الطبيعية والأزمات المناخية وأشير إلى المقاطع التالية التي تجسد رؤيا الشاعر ونظرته إلى البيئة:
(الأرض تهرع بأثداء دامية
 إلى الكهوف
في صحراء العالم
صوتٌ جارح
 يقطع سكون الليل
***
تحت سماء اليورانيوم
 أتعثر على شفير الحياة
**
تصالحٌ وتعايشٌ
 تحت اللافتة شجيرة خروب
 شعثاء وكئيبة
***
الأعشاب اصدقاءُ الإنسان
**
يتأمل من خندق النار
 أشجاراً تتفحم في الغابة
***
يا الهي الأخضر
 سأُنفى إلى نظام (الكيتو)
***
المصاب بمتلازمة داون
 ينفخ بيته البلاستيكي
***
في غابة ماطرة
 السيدا، كوفيد ماربورغ
 يتنافس المصنعون على جذواتنا.
***
النباتات أعمامي.
***
كل الأخوة
 من عالم اليخضور).
إضافة إلى أنّ شخصية جامع الأصداف التي ترد في العنوان والمتن تجسد الحلم بعالم أخضر خالٍ من التلوث فهو العشاب والشفيع الأخضر والحالم الأبدي وصديق البيئة الذي يعيش بالقرب من البحر بحثا عن لقاه متوعدا اللسان الملحي ومبشرا بالماء الحلو. ورغم أنه يعيش بما تفيض به الطبيعة عليه من كنوز إلا أنه ليس غريباً عن المكننة الحديثة التي تلوث الجو بضجيجها ودخانها.