إشكاليَّة اللغة والخطّ العربي

ثقافة 2024/01/31
...

مرتضى الجصاني



يقول ابن خلدون في مقدمته: إنَّ “الخط من جملة الصنائع المدنيَّة المعاشيَّة فهو لذلك ضرورة اجتماعية اصطنعها الإنسان وحيث أنَّ الخط والكتابة هما المرتبة الثانية من مراتب الدلالة اللغوية فإنها بذلك تابعة بنموها وتطورها لتقدم العمران شأن كثير من الصناعات المختلفة ولهذا السبب نجد أنَّ الخط والكتابة ينعدمان في القرى والبدو البعيدين عن المدينة وتكتسب بالتحضر والعمران”.

للوهلة الأولى يبدو أنَّ الخط العربي مختص باللغة العربية وحدها ذلك بسبب الصورة الدائمة للخط الذي اقترن اسمه مع العربية وأبجديتها وكذلك بسبب المشهد المألوف للعين حيث يشاهد الإنسان العربي الخط منذ ولادته في كل مكان حتى تكونت فكرة راسخة بأنَّ هذا الخط اقتصر على العرب لا غيرهم لكن هذا ليس دقيقاً ذلك لأنَّ الخط مر على عدة شعوب ومناطق جغرافية جعلت منه فناً لا يختص بالعرب فقط بل امتد لمناطق تركيا وإيران وغيرها من البلاد غير العربية مع نهاية العصر العباسي الذي كان يمثل ذروة المجد للغة والحضارة العربية، انتشرت اللغة العربية في مناطق كثيرة من بلاد فارس وما حولها وكذلك بلاد الهند وما وراء النهر ومع انهيار الدولة العباسية بقي الخط العربي هو الهوية البصرية للغة العربية وأصبح يأخذ أشكالاً مختلفة من تطور ونضج للحروف التي صارت فناً خالصاً ونالت اهتماماً كبيراً من الدولة العثمانية، إذ نضج خط الثلث والثلث الجلي والنسخ والديواني وابتُكرت خطوط جديدة لكنها لم تستمر. أصبح الخط العربي هو الفن المعبر عن وجه الحضارة العثمانية حتى أنَّ بعض السلاطين العثمانيين كان خطاطاً حقيقياً وماهراً وأصبح الخط العربي أساساً للفرمانات العثمانية والمراسلات والبريد وأشكال الطغراء تزين مجالس السلاطين وأسماءهم ليس هذا فحسب بل شهد الخط العربي تطوراً حتى على مستوى أدواته حيث أبدع أهل الخط بصناعة الأحبار من المواد الطبيعية وكذلك الورق الذي يعيش زمناً أطول وكذا بالنسبة لقلم الكتابة وطريقة بريه وتحريفه وجماليته وكل ما يتعلق بالخط العربي كان يتطور ويشهد ابتكارات فنية مفيدة له هذا على مستوى جغرافية الدولة العثمانية فقد برز فيها أفذاذ الخط العربي وعمالقته الذين جعلوا الخط يأخذ مكانته كفن وليس حرفة يدوية وكان على رأس هؤلاء الخطاط راقم أفندي الذي كتب أول لوحة تركيبية في خط الثلث الجلي واستمرت بعده سلسلة طويلة من الخطاطين الفنانين الذين منحوا الخط أرواحهم قبل تعب أجسادهم، على مستوى آخر نجد تطوراً هائلاً بخط النستعليق في بلاد فارس فقد شهد هذا الخط طفرات في نضوجه وتفاصيله وطريقة الكتابة الخاصة به من رسم وخط ونال الاهتمام من قبل الدولة وسلاطينها وشاهاتها بقدر اهتمام الأتراك بخط الثلث، وقطع خط النستعليق مشواراً طويلاً في الوصول إلى الجماليات البصرية المطلوبة على يد أمهر الخطاطين وبكلتا الحالتين هو إضافة كبيرة لإرث الخط العربي خصوصاً والخط العربي فن تراكمي وجمعي كأنه جدارية من الفسيفساء الصغيرة المتجمعة كي تكون صورة واحدة، وهناك أيضاً لغات أخرى ساهمت في رفد هذا الفن كاللغة الكردية ففيها أمهر الخطاطين وأساتذة فن الخط. 

إذن الإشكالية ليست في شكل الحرف، إذ تشترك هذه اللغات الفارسية والكردية والعثمانية والعربية بنفس الحروف على مستوى الهيكل الخارجي لكنها مختلفة في اللغة نفسها، في التعبير عن اللغة، في قواعد اللغة وخصوصاً اللغة العربية التي تشتهر بسعة قواعدها وتعدد مفرداتها وطرق التعبير عنها وهذا الخلل اللغوي البسيط بين اللغات التي تكتب بحروف عربية نتج عنه خلل في الشكل الصوري للغة والشكل الصوري للغة هو الخط العربي.


الخطاطون من غير العرب يجيدون قواعد الخط العربي ولا يجيدون قواعد اللغة العربية

تنسب هذه الجملة إلى الخطاط الأستاذ عباس البغدادي وأعتقد أنها صحيحة بنسبة مئة بالمئة وهذا ما نجده في أغلب الخطوط ويظهر جلياً في اتصالات الحروف في الخط الديواني وخط النستعليق وفي التراكيب الفنية في خط الثلث الجلي، القصد من هذه الجملة هو أنَّ أغلب الخطاطين من غير العرب يجيدون قواعد الخط العربي بشكل مدهش وهذا له علاقة بطبيعة شخصياتهم ومناخهم الجغرافي حيث تضفي هذه العوامل نوعاً من الهدوء والارتياح عند الكتابة والصبر الطويل للعمل على إنتاج حرف متكامل الجمال من الناحية البصرية وبالنتيجة إنتاج لوحة خطية غاية في الأداء المتقن لكن مع هذا كله نجد هناك أخطاء نحوية أو إملائية في لوحات كثيرة للخطاطين القدماء وحتى الخطاطين المعاصرين، هذه الأخطاء لم تصدر بشكل متعمد ولم تكن عفوية بنفس الوقت، ذلك لأنَّ الخطاط العثماني أو الفارسي يريد إنتاج عمل فني جمالي متقن من الناحية الفنية بحيث يوفر جميع التفاصيل التي تجعل من اللوحة عملاً خطياً متكاملاً من الناحية البصرية فيضطر إلى الاجتهاد في اتصالات الحروف وشكلها وموضوعها من الجملة وكذلك التراتبية في اللغة من تقديم وتأخير في كلمات النص المكتوب وبما أنَّ النص الكتابي هو المادة الأساسية التي يستند إليها الخطاط في عمل اللوحة الخطية من الضروري إتقان قواعد اللغة على الأقل في النص المكتوب خصوصاً أنَّ محتوى النص غالباً هو محتوى قرآني أو نبوي فهذا أيضاً يربك الشكل القرائي للوحة. 

مثال على ذلك حرف الميم في الخط الديواني العثماني الذي يميل إلى شكل الحاء كذلك بعض المدود في حرف السين واتصالها بالألف في بداية الكلمة وغيرها من مواضع الخلل اللغوي، ونجد هذا أيضاً في خط الرقعة العثمانية التي تكتب بشكل صغير تصل الحروف إلى درجة التلاشي وعدم التمييز في اتصالاتها أما في خط النستعليق فنجد هذا واضحاً في حرف اتصال السين مع الجيم ومد حرف الجيم ولأجل تمييز هذا الحرف عن غيره اضطر الخطاطون إلى وضع ثلاث نقاط تحت السين وهكذا، وهذه التفاصيل في الكتابة والإملاء تسبب لغطاً في فهم النص المكتوب الذي من الممكن أن يتغير بنقطة واحدة أو بكلمة واحدة. 

الخط العربي انتشر مع الدين وليس مع اللغة

بالعودة إلى ارتباط الدين بالخط العربي أو بشكل أوضح ارتباط الخط العربي بالكتاب المقدس “القرآن الكريم” نجد أنَّ هذا الارتباط لم يكن مقتصراً على العرب بل تجاوز ذلك لكل البلدان التي تستخدم الحروف العربية وبالتالي البلدان المسلمة ذلك لأنَّ القرآن الكريم هو الكتاب المقدس لدى المسلمين في كل مكان وقراءته توجب على المسلم أن يقرأ بالعربية ومن هنا نلاحظ أنَّ القرآن الكريم رافق الخط العربي في كل مكان حل به، هذا يعني أنَّ تطور ونضج الخط العربي على مدى قرون جاء عن طريق القرآن الكريم لذا يعد القرآن الكريم هو المادة الأساسية لرفد الخط العربي بالمضمون الكتابي وبالمقابل يضيف الخط العربي جماليات كثيرة في شكل النص القرآني وهذه الإضافات تختلف من بلد إلى آخر لكنها متكاملة وليست متقاطعة مع بعضها تكون قطعة جمالية رائعة وهذه الإضافات امتدت للزخرفة والمنمنمات والأرابيسك. 

اختلاف الشكل التركيبي تبعاً للغة

 قد يكون تفسير هذا العنوان صعباً إلا بوجود أمثلة توضح القصد لكن بصورة عامة يمكننا مشاهدة أعمال الخطاطين من الفرس والأتراك سواء كانت اللوحة بخط النستعليق أو بخط الثلث الجلي، ما نشاهده هو اختلاف اتصالات الحروف مع بعضها عن اللغة العربية على الرغم من أنَّ الحروف نفسها لكن الكلمات والجمل الكتابية تختلف لذلك ينتج عنه تركيب مختلف تبعاً لشكل الاتصال بين حرف وآخر لأنَّ الاتصال بين الحروف غايته تكوين كلمة ومن ثم تكوين جملة مفهومة وبما أنَّ هذه اللغات ليست عربية سيكون ناتجها كلمات مختلفة التركيب وهذا الاختلاف لم يبصره أحد من الخطاطين العرب بل راحوا يقلدون الخطاطين الأتراك دون سؤال ودون إبداء رأي وأحياناً يقلدون نصوصاً غير مترجمة لمجرد تقليد حروف الأقدمين، وصل هذا اللغط لدرجة تقليد الأخطاء في صياغة الجملة وسرى هذا الخطأ دون الانتباه له من الخطاطين والحال نفسها في كتابات النستعليق فحال اللغة الفارسية كحال اللغة العثمانية تستند إلى حروف عربية لكن تنتج جملاً فارسية أو تركية ففي خط النستعليق تجده رائعاً وباذخاً في سحره وجماله لكن إذا كتب به جملة عربية سيفقد شيئاً من سحره ذلك لأنه مرتب على الجملة الفارسية التي يكثر فيها تكرار الحروف وهذا يخلق إيقاعاً جمالياً رائعاً ويوفر حالة من الكتلة والفراغ نتيجة بناء الجملة، هذا السحر الخفي يختفي ويتلاشى عندما نكتب جملة عربية بالخط الفارسي وكذلك بعض الأحيان بخط الثلث الجلي لكن في الثلث الجلي بصورة أقل لأنَّ جذوره عربية وبغدادية على وجه الخصوص، لكنَّ هذه الشعوب غير العربية كان لها دور كبير في تطوير الخط العربي عن طريق تجويده وتنميقه وإضافة التزيين وإنتاج أعمال غزيرة ورائعة.