إمبراطوريَّة الضوء والزمن.. نظرة ريني ماغريت

ثقافة 2024/01/31
...

عزالدين بوركة



استطاع ريني ماغريت René Magritte، في سلسلته الصباغية “إمبراطوريَّة النور” (l’empire de la lumière)، أن يخلق تناقض الزمن الذي سعت السينما (بصرياً)، بقوة منذ نشأتها، أن تنتجه وتقبض عليه.. إذ تعدّ السينما فن الزمن، أو فن “حركة- زمن” (جبل دولوز)، و”الفن الذي يجعل الزمن مرئياً” (ٱلان دونو). يضعنا هذا الفنان البلجيكي أمام تناقضات ومفارقات مدهشة، تدعونا لإعادة طرح السؤال الفلسفي الأزلي: “ما الزمن؟”،
 في هذه السلسلة الصباغية، التي اعتمدها المخرج الأميركي ويليام فريدكين لتصميم لقطة متبعة من فيلمه The Exorcist بالإضافة إلى ملصقه الذي أصبح قطعة أيقونية. ويجعلنا إزاء عمل فلسفي أكثر منه لوحة صباغية. منجز يصوّر المتضادات ويجعلها متقابلة ومتداخلة في نسيج واحد: القماش.. وهو ما يجعلها تشترك والفلسفة (المتخذة للغة سنداً) في المهمة عينها: الوجود أينما وُجدت المفارقات.

تجعلنا هذه اللوحات المستفزة نرتبك في تحديد الزمن فيها، هل نحن إزاء الصباح أم المساء؟ هل السماء هي المضاءة بضوء الشمس الطبيعي، أم الشارع هو المضاء بنور المصابيح الاصطناعية؟ هل السماء هنا خلفية وهمية، أو أنَّ الشارع والمنازل مجرد رسمة على جدار؟ لكن ماذا عن الأشجار المعتمة والباهتة والرمادية؟ هل من جدوى لتحديد الزمن في هذا العمل؟ وما الزمن أصلا؟

تعمل سلسلة اللوحات هذه، إذن، على جعلنا أمام المفارقة الفلسفية العصية: الزمن واللازمن، المطلق والنسبي، الأبدي والعابر... بالقدر نفسه الذي تضعنا فيه أمام ثنائية الضوء والظلام، العتمة والنور، الأعلى والأسفل، وذلك داخل إمبراطورية مصغرة من الضوء والظلمة.. وهي مفارقة فلسفية وسيكولوجية، تخترقنا ونحن نشاهد هذه الأعمال.. سلسلة من لوحات امتدت من 1953 إلى 1954.

لقد ذهب ماغريت عبر مجموعته الفنية هذه بالفن السريالي إلى حدوده القصوى.. إلى الأعماق حيث تنبت بذور الأسئلة البشرية. إلى أعماق المجهول.. واضعاً السؤال الأنطولوجي الأبدي المتعلق بالزمن، إزاء محك بصري مفارق. إذ في “إمبراطورية النور”، يصبح المشهد غريبًا بسبب التعارض بين السماء المضيئة التي تبدو ممثلة للنهار، والمناظر الطبيعية المظلمة التي تستحضر الليل. هذا التناقض يخلق جوًا غير واقعيّ يشبه الحُلم، إن لم يكن حلماً. يجمع بين الطبيعي والاصطناعي، المألوف وغير المألوف.. فتتحول اللوحة، بعدّها صورة على الواقع في منحى معين، إلى عالم مواز من شأنه أن يستفز فينا الأسئلة الفلسفية الوجودية الكبرى، ويربك مفاهيمنا الثابتة المتعلقة بالوجود هنا والآن.. إذ ينبغي دائمًا البحث في الأعماق لنرى جيدًا.. فهذه الألوان والأشكال والهيئات لا تكفينا، مثلما يذهب السورياليون.. إذ إنَّ عجائب العالم دائماً ما تكون مدفونة، مطمورة أسفل تراكم حضاري من الحجارة والأتربة، وينبغي محاورة العوالم الغيبية لتجديد النظر.. النبش في مقابر التاريخ، وإحياء الموتى عبر مساءلة العظام واستنطاق الصخور.. وهذا ما تفعله العلوم الآثار، وما يفعله التحليل النفسي، وهو عينه ما فعلته الفلسفة ومارسه الأدب منذ القدم. والذي يتقاطع مع ما يُعبّر عنه أندري بروتون قائلًا: “ توجد العين في حالة وحشية” . ينبغي أن ندير النظر إلى جهة مغايرة للطبيعي، للمعتاد.. فالعين لا تندهش إلا أمام ما لم تعتد على رؤيته: الوحشي المجهول، والغامض المثير.

نظرة واحدة لا تكفي. نبغي، إذن ودائمًا، الحفر عميقا.. في أغوار العالم علويا وسفليا، وفي دهاليز الذات والنفس.. فكل الآثار هي لاوعي العالم. لهذا هي مدفونة في الغالب.. وما يفعله ماغريت سوى الكشف عنها، عبر استفزاز فعل النظر فينا. يحيي فينا الأسئلة الأنطولوجية، ويثير فعل الاستكشاف، عبر تهييج حاسة النظر، لتثوير المدفون عميقا، وجعله ظاهرا عينيا، في حالة وحشية.

ومن جانب النور المضاد للعتمة، فالضوء في هذه اللوحة يعدّ عنصرًا مركزيًا. تضاء السماء بضوء ساطع يكاد يكون غير واقعي، وهو ما يخلق جوًا سرياليًا، نابعًا من عوالم الحلم، حيث تتداخل المتناقضات وتتحقق المفارقات. يتناقض هذا الضوء الشديد بقوة مع ظلام الأرض، مما يبرز الانقسام بين هذين العالمين، لكن دون أي أثر لأيّ “برزخ” يسمح للناظر باستيعاب المرور “الزمني” و”الفضائي” بين العالمين المضاء والمـُعتم. وهو ما يسمح بتراكب وتراكم بصرييْن للتضاد بين السماء الساطعة والأرض المظلمة، مما يخلق غموضًا زمنيًا ومكانيًا، يغري تكرار النظر ومعاودة الإمعان باندهاش تجاه المشهد غير المألوف. إذ لا يمكننا تحديد ما إذا كان الوقت نهارًا أم ليلاً، مما يعزز الطابع الملتبس والأبدي للعمل.

يختفي الليل في الصباح، ويختفي الضوء في حلكة الظلمة، ولا شيء ينير الطرقات إلا أضواء خافتة ونوافذ مضاءة بأنوار باهتة. وغالبًا ما يدمج ماغريت العناصر المعمارية في أعماله. هنا، الأبواب والنوافذ التي تبدو وكأنها تطفو في الظلام تعزز الشعور بعدم الواقعية. يمكن أن ترمز هذه الفتحات إلى الاحتمالات، والممرات بين حالات الواقع المختلفة. إنها دلالات حُلمية يمكن أن نخترق معانيها بآليات التحليل النفسي.. التي قد تحيلنا على الانفلات الطفولي من قتامة الليل والظلام المخيف والمرعب، إلى أحضان الأم التي تتحول إلى منزل دافئ (foyer).

يضع ماغريت عمود ضوء في وسط جل لوحات إمبراطوريته النورانية. عمود يتيم يتوسط المشهد ويتسيّد إنارة العتمة، بينما يغيب مصدر إضاءة السماء، لا شمس في الأفق الأعلى، سوى زرقة منيرة وغيوم بيضاء، مما يخلق توترًا بصريًا ومفاهيميًا. لهذا يفسر بعض النقاد هذه السلسلة على أنها تصوير لللاوعي أو الأحلام، حيث تتعايش العناصر المتنافرة بطرق غير تقليدية. يمكن أيضًا تفسير تجاور ضوء النهار مع المشهد الليلي على أنه كناية عن ازدواجية الواقع، وهو ما من شأنه أن يوحي بأنَّ المظاهر يمكن أن تكون خادعة وأنَّ الحقيقة يمكن أن تكون معقدة ومتعددة. فقد عمل ماغريت على هذه التباينات البصرية-اللغوية، حيث لا يحيل النصّ أو العنوان على الشيء المصوّر، كأننا أمام عملين متناقضين ومتكاملين، العنوان/ النص والصور/ اللوحة. أو مثلما يتحدث ميشيل فوكو عن المشروع الصباغي لماغريت قائلًا: “يرتبط التصوير الصباغي la peinture، أكثر من غيره، بالفصل، بعانية وبقسوة، بين العنصر الغرافيكي (الرسومي) والعنصر التشكيلي: وإن حدث أن تم تركيبهما داخل اللوحة نفسها مثل الأسطورة وصورتها، فإنه [يحدث] بشرط أنَّ الملفوظ يتحدى الهوية الظاهرة للهيئة [المصوّرة]، والاسم الذي نحن على استعداد لمنحه إياه” . يحدث الفصل بين النص الملفوظ المصاحب والصورة/ الهيئة الظاهرة، لا لإرباك الناظر/ المتلقي فحسب، بل لاختراق التوافق اللغوي/البصري الذي ظل قائمًا بين اللوحة وما يدل عليه عنوانها.. وأيضًا خلخلة مفهوم الصورة الذي ظل مستبدًا بعالم الفن منذ عصر النهضة الأولى. إذ، مثلما يقول ماغريت، “لا يؤدي الغرض أبدا الوظيفة نفسها لاسمه وصورته” . فيغدو العنوان غموضًا ولغزًا لا بد من حلّه وتفكيكه شأنه شأن الصورة المعروضة، التي ما هي إلا “خيانة” للواقع، لا تمثلا أو عرضًا أو محاكاة له. وهو ما يتجسد في جملة “إمبراطورية النور”. في الوقت الذي نقف فيه إزاء منزل وحيد ومصباح يتيم وعتمة طاغية في النصف السفلي من اللوحة، يحيل العنوان إلى جغرافيا واسعة من الأنوار.

ويتجلى لنا أيضا هذا التضاد المتكامل سرياليا بين العنوان والصورة/ اللوحة، في عمله الشهير “خيانة الصورة” المعروف بـ”هذا ليس غليونا”. إذ مهما فعلنا فالصورة خدّاعة، ومهما تشابهت علينا الصورة فليست هي الواقع أبدا، بل خيانة له، لأنها معرضة لمجموعة من عمليات التأويل، وحتى الأشياء الملموسة والطبيعية، ليست هي ما عليه حقا ونحن ننظر إليها، ما نراه سوى انعكاس (تأويل بصري) لها بفعل الضوء. فالغليون في اللوحة لا يصلح للتدخين، ولا يمكن أن يصلح لشيء آخر، فهو نتاج لتصوّرنا وإسقاطاتنا عن شيء اعتدنا أن نسميه “غليونا”، له من زاوية معينة هذه “الهيئة” الماثلة أمام أنظارنا. وليست السماء منيرة ولا الأزقة مظلمة بالمعنى التقليدي في لوحته الأولى. إذ يكادان ينعمان بالضوء في جنة من النور، حيث لا يعني السواء غياب الضياء، بل حضورا خفيا للضوء.. تنطوي العتمة على الضوء أسفل ظلالها.

تتجاوز الأشجار، في “إمبراطورية النور”، الظلمة لتبلغ مبلغ الضوء وتخترقه بكل حلكتها، فلا فاصل أفقيا أو عموديا بين العتمة/ والضياء، إنهما متداخلان ومتناغمان. ويخترق الضوء دُهمة الليل من خلال تلك النوافذ النيّرة والمصباح المشتعل، الشبيه بشمعة في كهف أدهم.

يعتني ماغريت بالتفاصيل الدقيقة في الرسم والتصوير، متبعا إتقانا تصويريا كلاسيكيا، لكن عبر رؤية تحاول إرباك كل النظم المتعارف عليها، بما في ذلك الأسئلة الأنطولوجية المتعلقة بالزمن والمكان والخفة والثقالة والإنسان... إذ تخدعنا الصورة مثلما تفعل اللغة، ولا نتحقق من ذلك إلا عبر الأحلام التي تعيد تنظيم كل ما اختزناه من صور في “إمبراطورية من النور”.