جدليَّة العلاقة بين اللغة والثقافة

ثقافة 2024/02/15
...

  هويدا محمد مصطفى

بين اللغة والثقافة علاقة تداخل وتشابك وتماهي تفصح عن الثراء الفكري والمعرفي وتسهم كل واحدة منهما في الآخر، فعند التفاعل مع لغة ما، فهذا يعني إننا نتفاعل أيضا مع الثقافة التي تتحدث بهذه اللغة.. إذ لا يمكنك فهم ثقافة شخص ما من دون الوصول إلى لغتها مباشرة، والأمر ذاته عندما نتعلم لغة جديدة، لأن ذلك لا يقتصر على تعلم الحروف الأبجدية، وترتيب الكلمات، وقواعد النحو فحسب، بل يشمل أيضا التعرف على عادات وسلوك المجتمع وثقافته التي تنتمي إليها اللغة، لأن اللغة متأصلة جداً في الثقافة.. فهل نتمكن بالفعل من التكهن بموت أحداهما (الثقافة/ اللغة) ومن هي قبل الآخرى في الزوال..؟


علاقة عضويَّة ووثيقة جدليَّة
يرى الأديب والشاعر فرحان الخطيب أنه عندما نذكر كلمة اللغة، فهذا يعني إننا نقصد الوسيلة التي يتعارفها الناس ويتفاهمون فيما بينهم عبرها، ويقول: كما يعلم الجميع إن أية لغة مرت بمراحل عدة حتى تطورت واستقرت، وإن من اللغات ما أندثر، ومنها ما استمر كلغتنا العربية، غير أن اللغة تنمو وتتفاعل وتتناسل عبر تاريخها الطويل، مشير إلى أن ثقافة شعب من الشعوب هي كل ما يمت لهذا الشعب من إنجازات وإبداعات عبر امتداد أعوام من أفكار وفنون وعادات وتقاليد، وبكل ما أبتكر من قيم مادية ومعنوية.
ويعتقد أن اللغة بالنسبة للثقافة هي ركن اساسي، بل من أهم عناصر الثقافة التي تنسب لشعوب العالم، لأنها - أي اللغة- بها يؤلف هذا الشعب أغانيه وأشعاره، وعبرها يسجل أفكاره واختراعاته.  
وهذا، بحسب الخطيب، يحيلنا إلى أن اللغة تتصدر واجهة الثقافة لمجتمع ما، «فعندما نقول الثقافة العربية راسخة عبر الدهر، فإن أول ما نصيب بهذا القول اللغة العربية، لأنها علامة لأي منتج ثقافي للأمة العربية، وهذا يعني أن الثقافة تستغرق اللغة في تشكيلها النهائي وتعتبرها جزءاً منها، وليس لها غنى عنها، «وحسبنا أن ندرك أن أي من مخلوقات الله ليس لديهم ثقافة، لأن هذه المخلوقات ليس لديها لغة “.ويتابع: نستطيع أن نجزئ الثقافة الواحدة إلى ثقافات متعددة وبلغة واحدة، فهناك العديد من الثقافات التي تفردت بها منطقة من دون أخرى من حيث الملبس أو بالطقوس أو بالسلوك، بينما هم يتحدثون بلغة واحدة، ونقول “هذه ثقافة أهل المنطقة كذا، أي تخصهم وحدهم”.
ويؤكد الخطيب ألا فكاك من علاقة عضوية ووثيقة جدلية أيضا بين الثقافة واللغة في أية بقعة من بقاع الأرض، أو عند أي شعب من الشعوب .

مسألة الوعي باللغة
أما الناقد والكاتب أحمد علي هلال، فيرى أن العلاقة بين اللغة والثقافة هي تكامليّة من حيث التأثير المتبدل والذهاب إلى فضاءات أوسع لا تعني فقط خصوصية التعبير، أو بالمقابل الدور الذي تعنيه اللغة من تحرير الثقافة وأفعالها، بل أكثر من ذلك، وتحديدا باتجاه فحص المكونات التاريخيّة والحضاريّة والإنسانيّة التي تنطوي عليها الثقافة بوصفها بنية مجتمعية وتاريخية بالوقت ذاته.
ولفهم حقيقة العلاقة انطلاقاً من الخصوصية ذاتها يقول هلال إن «لغتنا العربية حتى تمثل ثقافتنا على النحو المنشود، هي لغة حية تستمر في حيز الاستثمار المعرفيّ والجماليّ الذي يعني مؤداها الهوياتي تأصيلاً، وتحديثاً ناجعاً وهذا ما قد تعبر عنه الأجناس والأنواع الأدبيّة التي تعكس حقيقة الاشتغالات على الثقافة لتحرير الوعي بها على غير مستوى من مثل الحداثة والأصالة والتنوع التعبيري الذي يعكس حيوية الثقافة وضرورة احيائها عبر اللغة. أذن اللغة في حيز الاستثمار . بحسب هلال، طاقة دينامية قابلة للاستثمار والانفتاح عبر ما يجترحه الكتاب والمبدعون والمثقفون وعبر آليات الاشتغال الجديدة تطويرا وتحديثا، إذ نستدل على ذلك كله بما يبعه المبدعون الذين يعطون للثقافة بالمفهوم الأوسع كل زخمها وحرارتها وقابليتها لأن تكون لغة العصر لحاقاً وانتساباً وأدوارا كثيرة تترجمها مبادرات المبدعين وتنوع اشتغالاهم اللغوي والمعرفي، وهو ما يتضح حقاً في محاولات التأصيل والانفتاح بأن معا والسؤال الآن كيف نطور أدواتنا للحاق بمنجزات العصر دون إقصاء للخصوصية والهوية والمكونات التاريخية: إنها مسألة الوعي باللغة أيضا التي تعطي المعنى للثقافة العربية وتطورها ونموه.

موسوعة شاملة
من جهته يقول د. فضيل حلمي عبدالله، إن «الثقافة تعد المحرك الأساس للغة والنحو والصرف، وهي أساس التقدم والنهوض بحياة المجتمع، كما أن ماهية القيم التربوية والتعليمية والاجتماعية والثقافية السائدة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هي المعيار الأدق للحكم على حركة تقدمها».
ويضيف أن «ما ينبغي أن تتسم بها الثقافة هو الاستقلال الفكري بعيداً عن الضغوطات السياسية، فالثقافة سلوك تربوي تعليمي إنساني، ومواقف أخلاقية، ومجموعة معارف، وحتى موسوعة علوم شاملة، يجب عليها أن تكون مستقلة، لأنها لا تملق غرائز  فوضوية عامة».
ويتابع: نشهد اليوم من كثرة عدد المثقفين والفنانين والفنانات مع اضمحلال قواعد اللغة، حيث أصبحت مجتمعاتنا اليوم تقذف أسوأ ما في أحشائها من مورثات ثقافات مختلفة أجنبية تعصبية أعطت تراجعا عن حضارتنا واصالاتنا الاجتماعية التربية والتعليم، رافضة الاختلاف، وغير قادرة على التكيف مع استحقاقات الإصلاح المدني والاجتماعي أو الديني أو حتى السياسي، لقد ابتعدوا ونسوا اللغة العربية وثقافة الأخلاق، فالكون برمته قائم على اللغة العربية التي هي كلام الله عز وجل وسنة ثابتة ومستمرة باستمرار الحياة.. ويشير إلى أنّ العلاقة بين الثقافة واللغة هي علاقة الإنسان المثقف الأديب مع الكتابة والكتاب، وهو القدير الذي يكون مقتنعاً بما يكتب قبل تقديمه للآخرين وتعرضه للنقد والنقد البناء.
ويؤكد: أنا هنا لا أريد أن ألغي دور النقد، ولا حتى ثقافة الحوار، فالحياة قائمة على الصيرورة والتغيير وجدلية الشيء ونقيضه..
 ما يهم الحد من سيول العلاقة بين الثقافة واللغة التي تنهال على كل من كتب.  
ويعتقد د. فضيل حلمي عبدالله أنه يقدم جديداً ولو بطرح فكرة أو مشروع أو حتى رأي خاص، ووظيفة الثقافة هي الأساس التي تكمن في إنتاج المعرفة، وتغيير الدهنيات لا تغيير الأنظمة أو العالم، واللغة يجب أن تتسم بالبناء والمراجعة البصيرة لأوضاع الحالة الفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية المجتمع المدني و تطور المجتمعات والعلوم والنظام والتقنيات والمؤسسات الثقافية والتعليمية وازدهارها، هو نتاج آلية العلاقة بين الثقافة واللغة والمراجعة المستمرة بينهم، كما ينبغي أن تتميز دورهذه العلاقة من دور أساسي ومهم نحو تحقيق رؤية واضحة في ثروة العلم والمعرفة والتطور التكنولوجي خاصةً في موسوعة الإعلامي.

مستويات اللغة
ويعتقد الشاعر د. هشام عبد الكريم أنه يمكننا تلمس جدلية العلاقة ما بين اللغة والثقافة من خلال ملامح عديدة منها أن اللغة تشكل مادة الثقافة وأداة تعبيرها وتواصلها مع العالم، فضلا عن ذلك فمن خلال مستويات اللغة نستطيع معرفة المنظومة الثقافية التي يتصف بها المثقف. ويقول إن «هناك علاقة ديالكتيكية بينهما، فلا ثقافة من دون لغة راقية تمثلها “.
ويضيف عبد الكريم: من الجانب الآخر يمكننا القول بمفهوم ثقافة اللغة، فليست كل لغة تعكس ثقافة ولكن كل ثقافة رصينة تعكس لغة متقدمة ومتطورة.  وعبر تاريخ اللغات، كما يتابع، نجد أن اللغة في حال تطور دائم، فاللغة التي تعامل معها الكتاب الكلاسيكيون هي غير اللغة التي تعامل معها المعاصرون، من هنا يتبين لنا أن لكل زمن لغته. ومن الجدير بالإشارة أن تطور اللغة لا يأتي بطريقة طوبائية بقدر ما يتشكل بتوئدة وهدوء ورصانة .
ويشير د. هشام عبد الكريم إلى أن علاقة اللغة بالثقافة علاقة وطيدة ومستمرة فاللغة ملح الثقافة - إن صح التعبير - ولكل مثقف طريقته بالتعامل مع اللغة، فالشعراء المتصوفة تعاملوا مع اللغة بطريقة تختلف عن الشعراء الآخرين. وكاتب المقالة لغته غير لغة الشاعر أو الكاتب المسرحي، وهكذا.

حوار إنساني
يقول الشاعر د. ابراهيم مصطفى الحمد: لقد ربط فردينان دو سوسير بين اللغة والسيميولوجيا قائلا إن السيميولوجيا علم يدرس حياة الدلائل في صلب الحياة الاجتماعية، وقد يكون قسما من علم النفس الاجتماعي، وبالتالي قسما من علم النفس العام، وأكد أنه ما دامت اللسانيات جزءا من السيميولوجيا، فإنها بالضرورة خاضعة للنتائج المتوصل إليها في الحقل السيميولوجي، فخالفه في ذلك رولان بارت قائلا إن السيميولوجيا فرع من علم اللغة العام، وذلك يعني أن اللغة هي الأساس الأبستمولوجي المعرفي على نحو عام، وأن العلامات على اختلاف أنواعها ما هي إلا جزء من اللغة، فلكل شيء لغته، وما الثقافة سوى نتاج حوار إنساني عبر اللغة وفيها، لذلك ارتبطت الثقافة باللغة ارتباطا مشيميا عبر العصور وباختلاف الأمكنة
 والأزمنة.
ويضيف الحمد: من أجل ذلك نجد توصيف هايدجر للغة بأنها “منزل الوجود” وفي الكتاب المقدس ما يشير إلى أنه “في البدء كانت الكلمة”، فهي وسيلة التفكير ووسيلة التواصل والحوار، وهي البنية التي تتصل بها كل البنى الاجتماعية والنفسية والفكرية وغيرها، وهذه البنية مكتفية بذاتها وتتسم بالشمولية والتحول في الوقت نفسه بتوصيف جان كوهن في كتابه بنية اللغة الشعرية، وإن الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن يخلق الكائنات قال لكل شيء كن فكان، لذلك قال بعض الفلاسفة، كيفما تفكر تكن، وغير خافٍ على الجميع الكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود) فالتفكير كما ذكرنا آنفاً لا يكون إلا عبر اللغة وفيها، لذلك امتازت كل لغة بثقافة تميزها عن غيرها بحسب طبيعة اللغة وأسلوب التفكير فيها، فضلاً على أن اللغات في حوارها تنتج فكراً جديداً آخر تتضافر فيه الرؤى والتطلعات والتوجهات، فتبدو الهجنة حينها ابتكارا خلاقاً لإنتاج المعنى.
ويؤكد أن “الثقافة مصطلح يعني فيما يعنيه التشذيب والتلطيف والتحسين في الطباع والتصرفات والسلوكيات، وطريقة التفكير، ولذلك قيل عن الرمح (المثقف) لأنهم كانوا يشذبونه ليظهر قويما خالياً من الزوائد، وهذه الثقافة لا تُبنى إلا عبر الحوار اللغوي والتفكير عبر اللغة وفيها، لذلك يؤكد علماء الأنثروبولوجيا على الأساس اللغوي لكل شعب من الشعوب، ويجعلون منه مثابة لانطلاقتهم نحو تحليل طبائع الشعوب وتحولاتهم الفكرية والاجتماعية عبر العصور”.
ويشير الحمد إلى أن العلاقة جدلية حقاً بين اللغة والثقافة، وهذا الجدل الهيجلي، لا ولن ينتهي إلا بانتهاء الحياة الإنسانية والوجود، فهي علاقة وجودية مشتبكة وشائكة لا يمكن أن تتحقق الثقافة إلا عبر اللغة ولا يمكن للغة أن تتخلى عن واجبها الإنساني في إنتاج الثقافة التي تخدم الإنسان وتحترم وجوده وإنسانيته، وتتوثق العلاقة بينه وبين العالم والموجودات على نحو تبادلي المنفعة وجمالي التعامل.

أدوات تعبيريَّة
من جهته يقول الأديب د. عقيل الفتلي: يشير العالم اللغوي السويسري فيردنيالدوي سوسير إلى علاقة اللغة بالثقافة بقوله (إن علم اللغة يرتبط بقوة بالعلوم الأخرى، ويستعير من معطياتها أحياناً، كما يزودها بالمعطيات أحياناً أخرى).
ويتابع الفتلي: بهذا المعنى، يمكن اعتبار اللغة وسيطاً يعمل في اتجاهين، فهي أولاً حاملة للرموز والدلالات والأنساق والإشارات، وهذه كلها أدوات تعبيرية لا غنى عنها للتواصل، ومن جهة أخرى نافذة واسعة على المعرفة البشرية والإنسانية وإن هناك علاقة وطيدة بين الثقافة واللغة، فلا ثقافة بلا لغة، ولا لغة بلا ثقافة، هما مرتبطتان معاً لا تنفك احداهما عن الأخرى.
ويضيف أن اللغة تحتفظ بالتراث الثقافي جيلاً بعد جيل، وتجعل للمعارف والأفكار البشرية قيمها الاجتماعية بسبب استخدام المجتمع للغة. فاللغة والثقافة على حد سواء كوسيلة لاستخدام الرموز في بناء الهوية الاجتماعية، واللغة لا تكسب الثقافة فقط لأبنائها، بل تنقلها من شعب إلى آخر، من أمة إلى أمة أخرى.
ويؤكد أن «هذا يعني أن تعليم أية لغة وتعلمها لابد من أن يتم في إطار ثقافتها باعتبار أن الثقافة ظاهرة خلقية وإرشادية تنجم بين بني البشر، فاللغة هي مصدرها ونبع وجودها، تخلقها مبادئ التدوين والمشافهة التي عمادها وسائل الإعلام وما يبرزه الفكر التنويري من نتاجات فكرية، تستند عليها الرموز والدلالات التي بدورها تعتبر وسائل تعبيرية لا يمكن الاستغناء عنها في عملية التواصل للمعرفة البشرية والإنسانية.