شاعر غزّة المنفي معين بسيسو: السجين يسافر بيده في الماء ويحاول الكتابة بصوته

ثقافة 2024/02/15
...

  أحمد عساف

تذكرنا أحداث غزة برحيل ابنها البار الشاعر الفلسطينيّ معين بسيسو الذي ولد في العام 1928 بحي الشجاعية بغزة، وفيها دخل المدرسة وتابع تعليمه، كما كان يقول عن طفولته « علمني عمي الشعر، وأنا مدين له بهذه النيران التي تندلع طوال الوقت من بين أصابعي، علمني كيف أقاتل ضد الماء وأنا ابن سبعة أعوام، الآن وأنا أقاتل في معركة الورق والحبر.. أعرف ما قد فعل بي».كان بسيسو يلقب بشاعر غزة، ليس لأنه ولد فيها ونشأ في رحابها فحسب، بل لأنه حملها في قلبه ووجدانه طوال سنوات حياته حتى وهو في المنافي المتعددة.

يعترف معين بسيسو أن أول منشور سري كتبه وطبعه ووزعه كان عن غزّة التي تحدث عنها قائلا إن «هذه المدينة التي احتفظت بالتاريخ، داخل قرص عسل مغلف بالشمع، هي مدينتي». إنها أيضاً تحتفظ بالجغرافيا، لكن داخل قرص من الدم. وهو يتساءل عن جدوى المطر في هذه المدينة لمن لا يملك بيتاً يشعل النار ليتدفأ فيه؟
منذ يفاعته مارس السياسة، وعشق الشعر حتى النخاع. وكان يذكر أن «الشعر شيء عزيز جداً ومقدس، جميل وشجاع يستحق أن تموت من أجله».
فكانت قصائده تحمل الكثير من شجاعة المطالبة في حق بلده فلسطين بالحرية الكاملة والتحرر من المستعمر. لقد طاردته سلطات الاحتلال الإسرائيلي باستمرار وتم نفيه خارج فلسطين لأكثر من مرة.
انتسب بسيسو في مصر إلى الجامعة الأمريكية، واندمج في الحركة الثقافية المصرية، وتعمقت صداقاته بالكثيرين، وخصوصاً رموز الثقافة التقدميّة. وبرز اسمه كشاعر، واتسعت ثقافته، ومع هبوب رياح الحداثة في الشعر العربي. فأصدر في القاهرة عام 1952 (المعركة) وهي مجموعته الشعرية الأولى.
يقول في القاهرة إن «أوّل من قدّم لي الشاعرين الفرنسيين – أراغون وإلوار - كان الشاعر فؤاد حداد. أما حسن فؤاد وزهدي الرسامان المصريان فقد قدما لي بيكاسو. بينما قدم وصلاح جاهين فونتمارا، والخبز والنبيذ».
وبعد مدة زمنية قصيرة عاد معين بسيسو إلى غزة، وكتب: «كان عليّ أن أعمل شيئاً ما، فأصبحت مدرساً في مدرسة الحكومة في الشجاعية».
في خريف عام 1952 ضاقت شوارع غزّة على الشاعر الفلسطيني الشيوعي الشاب معين بسيسو، من ملاحقات الشرطة السريَّة فشدً الرحال إلى العراق. سافر إلى بغداد ثم توجه بعدها إلى الديوانية وهناك قام بممارسة التعليم في مدرسة ابتدائية. كما ذكر: «بدأ حبر المناشير يفوح في شوارع بلدة (الشامية)، وبدأت الرقابة البوليسية تشتد. كان علي أن أفعل شيئاً ما كي أفلت من المصيدة، وجاء مندوب من الحزب، وطلب إليّ السفر معه فوراً إلى بغداد، وسافرنا في الليل إلى النجف، ومنها إلى بغداد. في بغداد كان قرار الحزب أن أُغادر العراق». وهناك صدر له ديوان شعري بعنوان: (جئت لأدعوك باسمك).
وبعيدا عن اعتقالاته المتكررة في بلده فلسطين، فقد تم اعتقاله في بعض الدول العربية، إلا أن أقساها دخوله السجن في المعتقلات المصرية بين فترتين الأولى من 1955 إلى 1957 ، والثانية من 1959 إلى 1963.
يقول: «علمتني الزنزانة السفر لمسافات بعيدة، وعلمتني أيضا الكتابة لمسافات بعيدة، فالسجين دائما يسافر بيده في الماء، ويحاول الكتابة بصوته»، ومن ثم توالت اسفاره إلى دول عدة، وذهب إلى لبنان حيث كانت اقاماته اشبه بالطويلة في بيروت، وكتب في العديد من صحفها ومجلاتها.. وإلى دمشق في سوريا حيث عمل محررا صحفيا في جريدة، وكانت له زاوية شهيرة بعنوان: (من شوارع العالم).  
رغم انشغال معين بسيسو بالشعر والسياسة، فإنه لم ينس حظه من الكتابة في المسرح، متأثرا بالمسرح الأوروبي. حيث أنه أول من أدخل المسرح الشعري إلى فلسطين بعد أن كتب ست مسرحيات شعريّة، مُثّلت كلها على المسرح المصري، منها: “مأساة جيفارا، ثورة الزنج، شمشون ودليلة، الصخرة، العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع”.  
من ذكرياتها المسرحية مع بسيسو، تقول الفنانة المصرية محسنة توفيق: “مسرحية ثورة الزنج للشاعر معين بسيسو، كنت أمثل فيها دور البطولة مع الفنان عبد الله غيث، ومرض عبد الله غيث، وأُحرجنا فوقت العرض اقترب، ونحن على وشك أن ندخل الخشبة، فهل نعتذر عن تقديم العرض؟ ولكن معين قال “لا بثقة.. لا.. أنا سأمثل الدور، وأدى الدور بطريقة مبهرة.. وصفق الجمهور للعرض، واكتشفنا يومها أن معين ممثل أيضاً”.
كذلك المسرح الوطني الفلسطيني، قدّم له مسرحية “الكرسي” من إخراج الفنان خليل طافش، وبطولة: عبد الرحمن أبو القاسم، زيناتي قدسية، انتصار فؤاد.
معين بسيسو هو من الشعراء الذين تنقلوا كثيرا بين بلدان وعواصم عدة على الرغم من حياته شبه القصيرة، 56 عاما، وقدم أعماله الشعرية كمن يعلن ولاءه الشعري للقارئ. فقد آثر أن يتخلى قليلاً عن الحديث عن تجربته ونصوصه، ليلقي التحية على مجموعة من الشعراء لهم علاقة بمساره الأدبي، بدءاً من: رفائيل ألبرتي الذي التقى به في يوغوسلافيا، وشبهه بـ”طائر أشيب يمشي كموجة”، على رغم انتقاده بسبب موقف أيديولوجي، وفريديريكو غارثيا لوركا الذي يسميه “الدم الذي علم إسبانيا قراءة الشعر”، ويفتوشنكو الذي إلتقى به في أوزباكستان أواخر الستينيات، وهو من قدمه إلى الجمهور السوفياتي، عبر ترجمته لقصيدة “الطبل” إلى الروسية، وأهداه معطفه. يقول بسيسو عنه: “كان قصيدة طويلة القامة”. وجهَ صاحب “الأشجار تموت واقفة” التحية أيضاً إلى الشاعر أناتولي سوفرونوف الذي قام بترجمة الشعر الفلسطيني ونقله إلى الروسية، وصديقه ميخائيل كورغانسيف الذي كان جسر تواصل بين بسيسو والقارئ السوفياتي.
تركت أشعاره حضورا بارزا ولافتا، وخصوصية شعرية. وقال عنه محمود درويش: “كان أشدنا شراسة في استخدام الشعر في معارك الدفاع عن اليومي الفلسطيني وعن الحلم
الفلسطيني”.
قدّم للطبعة الثانية من كتب معين النثرية الشاعر سميح القاسم الذي قال عنه: “لهذا المارد اسم هو معين بسيسو، معين توفيق بسيسو (أبو توفيق)، كما أحب وأحببنا أن نخاطبه، وأبو توفيق معين بسيسو شاعر كبير. استمد كبره وكبرياءه من منجمين عميقين وثريين: منجم الالتزام الثوري، ومنجم الإبداع الشعري. وإنجازات معين الشعرية والمسرحية ونثرياته اليومية الحياتية اللامعة، كانت وينبغي أن تظلّ ركناً راسخاً ومضيئاً من أركان الثقافة العربيّة الفلسطينية، بأبعادها الوطنية والقومية والإنسانية.
توفى معين بسيسو إثر نوبة قلبية في أحد فنادق لندن يوم 23 كانون الثاني 1984 – وكان قد كتب قصيدة بعنوان “السفر” بهدف إلقاءها في أمسية لندنية مشتركة مع صديقيه محمود درويش، وسميح القاسم. لكن الموت خطفه قبل أن يشارك في تلك الأمسية اللندنية.