المخدرات الإلكترونيَّة

آراء 2024/02/19
...

سيف ضياء

خلال العقد الأخير، شهدت منصات التواصل الاجتماعي تحولاً جذرياً، متخطية حدود التفاعل البشري والترفيه لتصبح عنصراً محورياً في الحياة اليوميَّة لجموعٍ غفيرة حول العالم، ومع ازدهار هذه التقنيات، وفي ظل الثورة التكنولوجيَّة المتمثلة في تقدمٍ ملحوظٍ في الذكاء الاصطناعي والاتصالات الإلكترونيَّة والابتكارات التقنيَّة، بات الخط الفاصل بين الواقع المادي والأبعاد الافتراضيَّة للحياة مموهاً إلى حدٍ بعيد
 ما يمهد الطريق أمام ظواهر جديدة قد تحملُ تبعاتها على صحتنا النفسيَّة والعلميَّة على حدٍ سواء، “المخدرات الرقميَّة الإلكترونيَّة - Digital Drugs”، أو“iDos r “ ، أو ما يعرف بالجرعة الرقميَّة “i-Doser”، هي إحدى هذه الظواهر التي لاقت انتشاراً واهتماماً متزايدين، وهي عبارة عن ملفاتٍ صوتيَّة مُصممة لإيقاع تأثيرٍ محددٍ في الدماغ من خلال استخدام ترددات صوتيَّة معينة يُعتقد أنَّ هذه الملفات قادرة على محاكاة التأثيرات الفيزيائيَّة والنفسيَّة للمواد المخدرة الكيميائيَّة التقليديَّة كالكوكائين أو الماريجوانا وغيرها من الأنواع التقليديَّة المنتشرة، وذلك بتحفيزها لمستوياتٍ أعلى من الانتعاش والاسترخاء، يعتمد المبدأ الكامن وراء هذه الملفات على تقنيَّة معروفة بـ “النبضات الدماغيَّة الثنائيَّة” أو “Binaural Beats”، كانت تستخدم سابقاً لعلاج بعض الحالات النفسيَّة وهي ظاهرة سمعيَّة تنشأ حين يُقدَّم صوتٌ بترددٍ مُحدّدٍ في أذنٍ وصوتٍ بترددٍ مختلفٍ في الأذن الأخرى، ما يؤدي إلى استجابة عصبيَّة تعملُ على توليد ترددٍ ثالثٍ يُفترض أنه يؤثر في حالة الوعي وتحفيز تجارب شبيهة بتأثير المواد المخدرة التقليديَّة على الدماغ.
ومن هذا المنطلق يهدفُ هذا المقال إلى تسليط الضوء على ما تواجهه المجتمعات المعاصرة من تحدٍ جديدٍ يتمثلُ في ظاهرة الإدمان الرقمي، والتي قد تصل تداعياتها إلى مستوياتٍ تفوقُ تلكَ المرتبطة بالمخدرات التقليديَّة، وهذا النوع من الإدمان ينمو في الخفاء، من دون إدراكٍ واضحٍ من الأسر والمجتمع بمخاطره الجمَّة وتأثيراته المدمرة، إذ تنتشر أسواق التجارة بالمخدرات الرقميَّة عبر الإنترنت التي تتخذ من الشبكة العنكبوتيَّة مقرًا لها، لتوفر سوقًا واسعًة ومنصاتٍ ترويجيَّة متخصصة تسوقُ هذه الملفات الصوتيَّة بكفاءة عالية، تتماشى مع المستوى التكنولوجي الذي يتمتعُ به الجيل الراهن، عبر وسائط متعددة كالحواسيب، الهواتف الذكيَّة، الأجهزة اللوحيَّة، وأجهزة الآيباد، وتقدم هذه المنصات للمستخدمين إمكانيَّة الاختيار من بين تشكيلة واسعة من الألحان الموسيقيَّة المتوفرة بجرعات متفاوتة، مع تباينٍ في مدد النغمات لتناسب الحالة الذهنيَّة المنشودة، تتراوح من 15 دقيقة إلى 30 أو 45 دقيقة؛ علاوةً على ذلك، توفر هذه المواقع أيضًا ملفاتٍ تعليميَّة توجيهيَّة بصيغة PDF تشرح بالتفصيل كيفيَّة الحصول على هذه الملفات الصوتيَّة والتأثيرات المترتبة عليها، فضلاً عن الإرشادات المتعلقة بكيفيَّة استخدامها، وذلك في نحو 40 صفحة تقريبًا.
من الجدير بالذكر أنَّ خطورة هذه المخدرات الرقميَّة تكمنُ في سهولة الحصول عليها وتوافرها بأي وقتٍ وبأسعارٍ تبدأ من دولارٍ واحدٍ، مع ازدياد السعر بناءً على المستوى المطلوب من الإدمان، تكمنُ خطورة هذه المخدرات في سهولة الحصول عليها وانخفاض تكلفتها، وفي غياب الرقابة، تعمدُ بعض المواقع إلى تقديم عيناتٍ مجانيَّة كوسيلة تسويق.
في ختام هذا المقال، يجب التأكيد على خطورة التأثيرات الموسيقيَّة المشبوهة، خاصةً تلك التي تستهدف الأطفال والمراهقين والشباب كجزءٍ من استراتيجياتهم، ولا يتم عن طريق الصدفة، بل عبر تطويع الموسيقى ضمن موجات صوتيَّة تُروّج سراً عبر مقطوعات معدة خصيصاً أو عبر إدراجها بشكلٍ ضمني في أغاني وأفلام الرسوم المتحركة، التي تحظى بمكانة مميزة في وجدان الصغار، بما في ذلك أولئك الأطفال الذين لا تبدو على نشاطاتهم اليوميَّة أي آثارٍ للمضامين الفنيَّة أو الأخلاقيَّة أو الفكريَّة، كما يتجلى الخطر الحقيقي في أنَّ هذا الأسلوب الماكر يمهدُ الطريقَ لتعويد الأجيال الجديدة على نوعٍ من الإدمان الرقمي والإلكتروني الذي لا تُحدد آفاقه، ويُشرع باباً واسعة أمام سلسلة من السلوكيات الضارة، إذا ما صار هؤلاء الشباب هم النسبة الغالبة من سكان مجتمعاتنا، إذ ستجد الشركات المنتجة لهذه المواد الموسيقيَّة طريقاً ممهدة للهيمنة على النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، حيث يصبح الأفراد كحلقات تابعة، مدمنة على إنتاجاتها ومسايرة لأهوائها بشكلٍ يهددُ الأمن القومي المجتمعي والثقافي.