جدليَّة العلاقة بين الأدب والسلطة

ثقافة 2024/02/20
...

  أحمد الشطري

غالبا ما يصنف الأدب في علاقته مع السلطة ضمن صنفين: صنف معارض أو مناوئ وصنف مناصر أو مؤيد. وكلا الصنفين لا يمتلكان عمرا طويلا من الناحية التحريضية أيا كان شكل الخطاب التحريضي في علاقته بالسلطة سلبيا أم إيجابيا، والسبب إن كلا الصنفين المناوئ والمناصر ينتهي أثرهما التحريضي بانتهاء صاحب تلك السلطة أو رموزها أو فكرها؛ غير أن ثمة أثرا سيظل فاعلا في تأثيره في المتلقي سواء أثناء أم بعد غياب حاكمية تلك السلطة. وهذا الأثر بكل تأكيد لا يتعلق بتحريضية موضوع النص الأدبي، وإنما بما ينطوي عليه من جوانب فنية وجمالية أولا، وبما ينطوي عليه من أرخنة للحقبة التي  أنتج فيها النص.

وقبل أن نبدأ في تفصيل موضوعنا لا بد أن نحدد أو نعرف مفهوم السلطة الذي نقصده، هل هو النظام الحاكم أم هو الشخصية القائدة. أم هو الفكر بغض النظر عن كونه حاكما أم غير حاكم.

ومن وجهة نظرنا أن السلطة: هي الجهة التي تسعى للترويج لأهدافها الخاصة بغية التأثير في أكبر عدد ممكن من الناس وكسب تأييدهم لصالح تلك الأهداف، بغض النظر عن ماهية تلك الجهة سواء كانت نظاما حاكما أم حزبا أم شخصية ذات نفوذ.


الجانب التحريضي للنص الأدبي

يصنف الأدب المتعلق بالعلاقة مع السلطة ضمن صنف الأدب السياسي في التقسيمات الحديثة لأغراض الأدب، بينما كان في التصنيفات القديمة يصنف ضمن غرضي المديح والهجاء، وإن كان هذان الغرضان في حقيقتهما يبدوان أشمل من العلاقة بين الأدب والسلطة، ولذلك جاءت التسمية الحديثة؛ لتكون أكثر تحديدا وأصدق تعبيرا وحصرا لهذا النوع من الأدب، ورغم ذلك فهي بهذا المسمى تشمل كلا النوعين، ثم تخضع بعد ذلك إلى تصنيفات متعددة، وقد يطلق عليه البعض تسمية (الوطني)، وهي تسمية ربما سبقت تسمية الأدب السياسي.

ويبدو أن تسمية الأدب السياسي وخاصة في بدء اجتراحها أو استخدامها في الأدب العربي جاءت انعكاسا أو تعبيرا أو انطلاقا من وعن الرؤى الأيديولوجية التي ظهرت وانتشرت في العقود الأولى للقرن التاسع عشر وخاصة في بلداننا العربية، وهذا لا يعني أن تسمية الأدب الوطني قد اضمحلت بل بقي الأدب الممجد للسلطة في فترة حاكميتها يسمى (بالوطني) في أعراف الإعلام أو النقد السلطوي (إن جاز التعبير)، وهي تسمية تحمل عدة أهداف: أحدها (حصري) متعلق بالسلطة التي تدّعي أو تعتبر نفسها الممثل أو الرمز الشرعي للوطن، والثاني (تمييزي) متعلق بالأديب أو الأدب (السلطوي) على اعتبار أنه يمثل الانتماء الحقيقي للوطن وفق نظر السلطة، والثالث، (إقصائي) يهدف إلى سلب الصفة الوطنية من الأدب المعارض ومنتجيه، وفي الجانب الآخر يطلق المعارضون للسلطة تسمية الأدب (السلطوي) على ذلك الأدب الذي يقف في جانب السلطة أو الحزب الحاكم بغية سلب صفة الوطنية منه.    

لا شك أن هذا الاختلاف في التسميات مرتبط باختلاف الرؤى الفكرية والسياسية، ومتعلق بالمُنْتِج فكريا والمُنْتَج كمحتوى وليس فنا، ومن هنا فهو لا يمت بأية علاقة للقيمة الإبداعية للأدب، ومع ذلك فأن الجانب الإعلامي يملك قدرة كبيرة على التأثير على دائرة التلقي بغض النظر عن جودة أو رداءة ذلك المُنْتَج.


الجانب الفني 

لا شك أن كل منتج إبداعي مهما كان تصنيفه ينطوي على جوانب إبداعية فنية وجمالية بغض النظر عن موضوعته التي ينبني عليها، وقيمة هذه الجوانب تخضع لقدرة الأديب ومهارته وإجادته وتميزه، وكلما كان الأديب متمكنا من فنه ومتميزا فيه كلما كانت نصوصه الإبداعية أطول عمرا وأكثر تأثيرا في المتلقي، ومن هنا يجيء احتفاء ورعاية السلطة بذلك الأديب وإغرائه أكبر من غيره، ومحاربتها وإقصائها لهذا النوع من الأدباء المناوئين أكثر من غيرهم.

وهذا الاهتمام الخاص بهؤلاء المبدعين المميزين لم ينبن كما نرى على القيم الفنية والجمالية بذاتها، وإنما هو يستند على ركيزتين: الأولى تتعلق بحجم تأثير منتج ذلك الأديب في المتلقي الآني، والثاني متعلق بالاعتقاد بديمومة الحضور والذكر أو (الخلود) تاريخيا، وهذه العناية أو الاهتمام متأت من إدراك الطرفين السلطة والمعارضة لمحدودية التأثير المستقبلي لوسائل الإعلام في توسيع دائرة التلقي وديمومتها للمُنْتَج الأدبي، ومن ثم فهي تبحث أو تحاول أن تكسب الأديب الذي تعتقد أنه يمتلك القدرة بذاته على صناعة دائرة تلق واسعة ودائمة.   


الجانب التاريخي 

تمثل المدونات أو النصوص الأدبية واحدا من أهم الروافد التي تساهم في رفد المدونات التاريخية بالوقائع والأحداث والشخصيات، أو أنها تشكل مرجعية مهمة من مراجع المؤرخين في عملية تدوين تاريخ الأمم، لأنها تواكب وتنقل الأحداث وخاصة الأحداث الكبرى، وبغض النظر عن حقيقة الصورة التي تنقلها، ومدى اعتمادها أو الركون إليها من قبل المؤرخين، إلا أنها ستسهم في رسم صورة كلية أو جزئية عن الحدث أو شخوصه في ذهن القارئ غير المهتم بشرائط التدوين التاريخي. وإذا كانت الوسائل الحديثة قد سحبت البساط من تحت أقدام الأدب في عملية أرخنة الأحداث، إلا أن عملية سحب البساط هذه لم تكن بالشكل الكلي أو الكامل على الأقل في خصوصية التلقي الجماهيري، إذ ما زالت النصوص الأدبية تحفر الصورة التي تحملها في أذهان الجمهور. خاصة ذلك الجمهور البعيد عن معايشة واقع الحدث، وإذا ما حاولنا تقصي الأمثلة على ذلك في أدبنا العربي فسنجد هناك العديد من الشواهد، فمعركة (عمورية) التي وقعت في عام (89هـ)على سبيل المثال كانت في كثير من تفاصيلها ترجع إلى قصيدة أبي تمام (السيف أصدق إنباء من الكتب)، كما أن قصيدة المتنبي (على قدر أهل العزم) كانت ذات أثر مرجعي لمعركة (الحدث).   وبناء على ما تقدم نرى إن تصنيف الأدب وفق المنظور الأيديولوجي، يمكن أن يكون له مفعول إقصائي مرحلي، ولكنه لن يملك ديمومة التأثير؛ ذلك أن القيمة الفنية الإبداعية تبقى هي العامل الأطول تأثيراً والأكثر بقاء بالإضافة إلى قيمة المرجعية التاريخية.