الأثر التربوي للمسرح المعاصر

ثقافة 2024/02/21
...

د. علاء كريم

المسرح بطبيعته وسيلة تربويَّة وتعليميَّة مهمة، وذلك لما يكسبه هذا الفنّ للأجيال من قدرات على مختلف المستويات، وقد أثبت ذلك عبر مجموعة من الدراسات المختصة في علوم التربية أو المجال النفسي لمعالجة بعض الاضطرابات السلوكية أو الحس الحركي، مثلاً المسرح المدرسي شأنه شأن أي مادة دراسية أخرى تلقن في الصف أو تعرض في ساحة المدرسة، وهي بالتالي تعمل على تنمية شخصية المتعلم عبر قيم الفن الجمالية.
والمسرح اليوم من الوسائل التعليمية، التي يجب أن تنال الرعاية والاهتمام، لكي تؤدي دورها كاملاً في العملية التعليمية والثقافية، وتتجلى أهمية المسرح وفاعليته في رفع مستوى الأفراد مهما كانت أعمارهم، أو ميولهم. وعليه، يمكن فهم المسرح التربوي بأنه حامل للقيم الأخلاقية والاجتماعية التي تتعلق بوجود المتلقي وعلاقته بالأشياء التي من شأنها تقديم المعرفة وتنظيم حياة المتلقي.
الفن المسرحي هو أكثر الفنون تأثيراً لأنه فن المواجهة، فضلاً عن أنه حامل منذ النشأة وحتى الوقت الحاضر عنصر الابتكار والاكتشاف، فهو يؤثر في عملية بناء المجتمع وتنظيم العلاقات، وينطلق ذلك من التساؤلات العقلانية والحسية والبحث الدائم عن قيم الاستمرارية والإبداع. كل عرض مسرحي يحمل في تكويناته عناصر سمعية وبصرية تتفق في بنيتها الداخلية والخارجية مع أسس وتكوين مذهبها الفني، وهذا قد يلامس اشتغالات المسرح الملحمي (البريختي)، الذي هو إحدى المحطات الحديثة التي تركت أثراً في حركة المسرح العالمي والعربي. كما أنَّ أهم ما تمتاز به ممكنات المسرح اليوم هو مخاطبته العقل والمضامين التعليمية والتربوية ومدى تأثيرها في المجتمع، وأيضاً إيصال هذه القيم إلى الجمهور من أجل إغنائهم معرفياً وفكرياً وجمالياً.
وتعمل التربية حسب رأي (جان جاك روسو) على تهيئة الفرص الإنسانية كي ينمو الفرد وخاصة الطفل على طبيعته من ميوله واهتماماته. فضلاً عن أنها نظام اجتماعي يحدد الأثر الفعال للأسرة، أو المدرسة في تنمية النواحي الجسمية والعقلية والأخلاقية حتى يتمكن أن يحيا حياة سوية في البيئة التي يعيش فيها. وقد يتجسد ذلك بوساطة العرض المسرحي الذي يتضمن أفعالاً مسرحية متعددة، منها: سياسية، أخلاقية، دينية، فلسفية، أو حتى لو كانت موقفاً، حادثة شخصية، فإنه يجوز القول إنَّ مؤلفها معلم، أو متخصص في تنشئة الطفل.
وهناك من يؤكد أنَّ المسرحية التعليمية (التربوية) تعتمد الأسلوب الملحمي، الذي يهدف إلى بعث الوعي بمشكلات العصر لدى طبقة اجتماعية معينة وبإشراك المتلقي في عملية التغيير الاجتماعي. فقد اهتم بريخت بعلاقة المسرح بالقضايا الاجتماعية والسياسية والتربوية، فبالوقت الذي دعا فيه إلى تحرير المسرح من التأثير وعدم الاستغراق وتخدير الأعصاب واستنزاف العواطف، نجد أنه قد ضمّن أعماله الإبداعية أبعاداً تلتقي مع الطروحات الثورية في علاقتها بالفن بشكل عام والمسرح بصورة خاصة، وهذا ما تجسد في أعماله التعليمية الملحمية، التي يؤكد من خلالها إمكانية المسرح أن يلعب دوراً مهماً في مسألة إعادة بناء المجتمع. تطورت التعليمية عند بريخت، بعد عرضه مسرحيته التعليمية الأولى التي كتبها عام (1929) بعنوان (طيران ليندبرك). وهناك مسرحيات تعليمية أخرى أثارت الجدل، منها: مسرحية (القرار) فهي من أكثر مسرحيات بريخت التعليمية حدةً وأكثرها وضوحاً ومباشرةً.
ولم يقتصر دوره كونه مفسراً مسرحياً عند طرحه لذلك المسرح شكلاً ومضموناً، بل أصبح رجلاً مجدداً لثقافة أجيال كاملة، ومواكباً لحركة التقدم، فقد أصبح بريخت معلماً يعطي أفكاره إلى كل المسرحيين، فمن وجهة نظره أصبح المسرح من شأن الفلاسفة الذين لا يحاولون تفسير العالم فحسب، بل أولئك الذين يرغبون أيضاً في تغييره، من أجل خلق الوعي والصفات التربوية، التي جاءت وفق أسس حقيقية، كما استمد مادته المسرحية التعليمية من مصادر قديمة ترجع بأصولها إلى تعاليم دينية نابعة أما من المسيحية أو الديانات الشرقية، وترجع أصول المسرحيات التعليمية إلى أزمنة بعيدة، حتى أيام اليسوعيين الذين كانوا يستخدمونها كأدوات للدعاية الكاثوليكية، وكذلك تجسدت التعليمية في مسرحيات (الأهواء)، فهي نوع من أنواع المسرحيات في فترة الكنيسة أو المسرح الكنسي، استخدمتها الكنيسة لأغراضها الدينية الدعائية، والتي كانت تهدف أولاً إلى أن تمس قلوب المشاهدين وحواسهم عارضة أمام أعينهم صوراً من الأهواء البشرية فقد كانت هذه المؤلفات تشكل في الواقع تمارين تربوية حقيقية.
أما في التعاليم الشرقية فقد جاء عن (بهارتا) مؤلف مسرحي هندي، بأنَّ المسرح هو أداة تعليم وخلق حالة انفعالية، والمسرح بمنأى عن التعرض للعداء الديني، بل أنه يحظى بالبركة الإلهية. ويؤكد (براهما) وهو إله الخلق في الهندوسية، والذي اعتمد المعرفة المقدسة، على أهمية المسرح كوسيلة تعليمية.
وعليه، أعتقد بأنَّ الصورة البصرية في المسرح التربوي، تعتمد المتغيرات التقنية الحديثة، فبعدما كانت الصورة تأخذ شكل الجمود والأطر التقليدية، أصبحت أكثر حيوية وإمتاعاً وتشويقاً نتيجة الوسائل التقنية، التي غيرت من شكل العرض المسرحي، الذي اعتمد على التلقين والشكل الحركي التقني الجاذب للجمهور، وبالتالي قد تتحقق الصورة البصرية في المسرح التربوي التعليمي نتيجة المتغير التقني المتناغم والمنسجم والمتوازن مع الخلق الإبداعي المعاصر، والذي له أثر كبير وفائدة في المسرح التربوي.