تخييل الأزمة البيئيَّة

ثقافة 2024/02/21
...

أنياس بولار *

ترجمة: رضا الأبيض

إنه لمن المثير للاهتمام أنْ نلاحظ أنَّ الأدب لم يتناول دائمًا وبشكل فعّال قضايا البيئة، أو في الأقلّ لم يتناولها كموضوع إشكاليٍّ. لأنه وإنْ كانت الطبيعةُ ووصفُ مناظرها من العناصر الأدبية المهمّة، فإنَّ موقفَ البشر من البيئة المهدَّدة يبدو قليل الشيوع وحديثاً. لذلك يبدو من المهمّ أنْ نعودَ إلى طرائق إقحام الأدب في النقاش البيئيِّ من أجل إثبات مشروعية هذا النقاش، والتساؤلِ أيضًا عن إمكانات الأدبِ في أنْ يعدّلَ أو يثريَ الخطاب الراهن حول البيئة.


يمكننا أولًا أنْ نتساءل عن حضور الأدب في مجالٍ يبدو مخصصًا لبحوثٍ من نوع آخر مثل العلوم الطبيعيّة والجغرافيا والإثنوغرافيا.
من المهمِّ، بل من الضروريّ للغاية، في رأي الباحث الكندي نيل إيفرندن Neil Evernden، الجمعُ بين منهج العلوم “الصحيحة” والمقاربة الجمالية والإبداعية للإجابة عن الأسئلة البيئية المعاصرة. ويؤكد إيفرندن أيضًا، في شيء من الدعابة، ضعفَ المنهج العلمي الذي يتجاهلُ المنظور الفني والأدبي. يقول: “من المفارقة أنَّ المجتمع، عندما يكتشف متأخرًا التناقضات في العالَم من حوله، يلجأ إلى العِلْم بحثا عن الحل. وهكذا يستمر عَالِمُ البيئة في التقدم […] من خلال الادعاء بأنَّ الاكتشاف الوشيك لضمادة معجزة جديدةٍ وانتشارها سيعيد الانسجامَ إلى المحيط الحيويِّ. في الواقع، لن يكون من المفيد إلقاءُ اللوم على علماء البيئة، فالدفاعُ عن البيئة يقتضي الوعي بالقيم. والقيمُ هي جوهرُ الفنون. وعليه، فإنّه دون جمالياتٍ لن تكون حماية البيئة أكثر من تهيئة للأقاليم والمناطق”1. ومن ثمّة فإنَّ الأدبَ حين يعرضُ منظوره الجمالي، فإنّه يكمّلُ مناهجَ العلوم الأخرى.
ويذهب شليبورج Chelebourg إلى أبعدَ من ذلك في ملاحظته تأثير الأدبِ على التخصّصات العلمية. يقول: “ليس للعلم القدرةُ على حمايتنا من بيئة كونيّة خطيرة إلاّ إذا حرّر نفسَه من ادعاء القوة، وكان حالمًا وخياليًا، بل أكاد أرغب في أنْ أقول: شعريّا” 2.
ولذلك، يمكن للأدبِ أنْ يستثمر في مجال الإيكولوجيا لغاية أنْ يوفّر لها القوةَ الإبداعيّة والشّعريةَ اللازمة للتغلب على القلق الذي تثيرُه.
إنَّ المجال التخصّصي للنقد البيئي écocritique، وهو تيارٌ أكاديمي ديناميكي بشكل خاص منذ التسعينيات، يميل على وجه التّحديد إلى الاستجابةِ إلى الحاجة إلى الدراسة الأدبية للأزمة البيئية. هذا المجالُ الأدبي، الذي يجمع جمعياتٍ مثل ASLE (جمعية دراسة الأدب والبيئة، الولايات المتحدة) وALECC (جمعية الأدب والبيئة والثقافة في كندا) وEASLCE (الرابطة الأوروبية لدراسة الأدب والثقافة والبيئة)، من شأنه أنْ يخلق تقليدًا عالميًا بين الباحثين المهتمّين بمسألة البيئة في الأدب. وإذا لم يكن النقد البيئيُّ معنيًا بشكل خاص بالمخاوف البيئية، فإننا نرى أنه يتطوّر في هذا الاتجاه.
وفي مقال له نشر سنة 2011،3 يذكر بويل Buell “الموجات” المختلفة لحركة النقد البيئيِّ، مشيرًا إلى تحوّل في المواضيع التي تم تناولها، إذْ خلال “الموجة الأولى” (من 1990 إلى بداية القرن الحادي والعشرين) كان الأمر يتعلق بالكتابة عن الفضاءاتِ الريفية والبرية وليس عن الفضاءاتِ الحضرية. أما “الموجة الثانية” (من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حتى اليوم) فقد أضافت الاهتمامَ بالفضاء الحضريِّ، آخذة بعين الاعتبار اليد البشرية التي طالتْ بالفعل كلَّ المناطق (وهذا ما يسميه بويل “إعادة تشكيل الإنسان” human reshaping ).4
بيد أنَّ هذا الاهتمامَ بالفضاء الحضري وبالتأثير البشري في البيئة يقتربُ من ذلك الذي يعبّر عنه القلق البيئي.
وتؤكد أورسولا هايزUrsula Heise في “دليل هيتشيكر للنقد البيئي” The Hitchhicker’s Guide to Ecocriticism أنه منذ الظهور الحديثِ لمجال تخصّصي حول العدالة البيئيّة (يهتم بالعلاقة بين البيئة وانعدام المساواة الاجتماعية)، ركزت حركةُ النقد البيئيِّ المزيد من الاهتمام على انعدام المساواة بين الناس، ولاسيما في حصولهم على الموارد الطبيعية وفي تعرّضهم للمخاطر الطبيعية والكيميائية والتكنولوجية والإيكولوجية5.
يجب إذنْ أنْ يُنظر إلى الإيكولوجيا في جانبها الإشكاليِّ ذي الطبيعة “العاجلة”. وهكذا فإنَّ النقدَ البيئي يميل إلى الذهاب إلى ما هو أبعد من الاهتمام بالمناظر الطبيعية ليثير القلقَ الناتج عن احتمال خسارة البيئة، وبالتالي نهاية الإنسان. وعليه، فإننا نرى أنَّ الأدبَ يبدو أنه قد وجد مكانًا له في قلْب الفكر الإيكولوجي.
ولكن كيف يعالجُ الأدبُ، على وجه التحديد، الأزمة البيئية المعاصرة؟
للقيام بذلك، على الأدب أنْ “يفعّل “القلقَ البيئي في مسار “التخييل”. إنَّ الأعمال الأدبية، في رأي شيليبورج، تلك التي تستثمر في مجال البيئة، والتي يسميها “تخييلات بيئية” écofctions ، تتمتّع بميزة تحويل الواقع إلى تخييل سردي. يقول: “يقع تنظيمُ المعطيات في شكل سيناريوهات، وبالتالي يقع تحويلها إلى تخييل[...]. تظل نقطة البداية صادقة، ولكنَّ التأويل الذي توحي به، والصورة التي تثيرها، يجعلانها تخييلًا سرديًا”6.
وحسب رأيه أيضًا، فإنَّ الغاية ممّا يسمى أعمالاً “بيئية” هي أنْ توفر للعالَم العمليِّ “خبرتَه في تحليل اللغات والعلامات والرموز، وقدرته على كشف دلالة التمثلات التي يبني تداولُها العقليات”7. وبالتالي فإنَّ الأمر لم يعد مسألة صورة عن الأزمة، وإنما مسألة مخيال.
تقول ناتالي بلان Nathalie Blanc، أستاذة الجغرافيا، الفرنسية، في مقالها “الأدبُ والبيئة: نحو شعرية بيئية” إنَّ تمثيلَ الطبيعة في السرد والأسطورة يقوم على تقديم “مسار بديل يسمح بتكوين “مخيال بيئي” imaginaire environnemental مستقلٍّ عن سائر العلوم الأخرى، يؤدي إلى “تجنب خطر الإبادة البيئية”8.
هذا هو هدفُ أدب الأزمة الإيكولوجية، وفي هذا تكمن أهميتُه: فهو لا يستدعي البيئة فحسب، بل “يخيّلها” fictionnaliser ويحوّل الصّور الشّعبية المعاصرة إلى مخيال، إلى شبكةٍ من الصّور الذهنيّة التي يستحضرها أدبٌ مسهب ومتعدّد التخصصات وهجينٌ.

---
1- Neil Evernden, « Beyond Ecology: Self, Place, and the Pathetic Fallacy », dans Cheryll Glotfelty et Harold Fromm [dir.], The Ecocriticism Reader. Landmarks in Literary Ecology, Athens/Londres, University of Georgia Press, 1996, p. 103,
cité et traduit dans Nathalie Blanc, Thomas Pughe et Denis Chartier, « Littérature & écologie : vers une écopoétique », Écologie & politique, n° 36, février 2008, p. 7.
2- Christian Chelebourg, Les écofctions. Mythologies de la fn du monde, Bruxelles, Les impressions nouvelles, coll. « Réfexion faites », 2012, p. 127.
3- Lawrence Buell, « Ecocriticism: Some Emerging Trends », Qui parle, vol. 19, no 2, Spring/Summer 2011, p. 87-115.
4- Ibid., p. 93.
5-Ursula K. Heise, « The Hitchhicker’s Guide to Ecocriticism », PMLA, vol. 121, no 2, 1er mars 2006, p. 503-516.
6- Christian Chelebourg, op. cit., p. 8.
7- Ibid., p. 11.
8- Nathalie Blanc, op. cit., p. 5

* Anaïs Boulard (متخصصة في الأدب المقارن،
 جامعة أنجيه. فرنسا)