{متلازمة داون} عمرها أكثر من 5000 عام

علوم وتكنلوجيا 2024/02/22
...

 كارل زمر

 ترجمة وإعداد: أنيس الصفار


نجح العلماء في تشخيص متلازمة داون في الحامض النووي "دي أن أي" المتخلف من عظامٍ قديمة لسبعة أطفال يعود زمن أحدهم الى أكثر من 5500 عام. الطريقة التي استخدمها هؤلاء قد تساعد باحثين آخرين على معرفة المزيد عن طرق معالجة المجتمعات القديمة للمصابين بمتلازمة داون، وربما حتى حالات غيرها نادرة الحدوث.

تصيب متلازمة داون في زمننا واحداً من بين كل 700 مولود، وسبب الحالة هو وجود نسخة زائدة من الكروموسوم رقم 21 لدى الإنسان المصاب. هذا الكروموسوم الزائد ينتج بروتينات زائدة، وهذه تسبب بدورها جملة من التغيرات تؤدي الى عيوبٍ في القلب وقصورٍ في القدرة على التعلم.

ناضل العلماء طويلاً من أجل التعرف على تاريخ هذه المتلازمة، لأنَّ ولادة طفل مصاب بها في زمننا يكون أرجح بين الأمهات الأكبر سناً، بينما كانت النساء في الماضي يتوفين صغيرات في أغلب الأحيان، وهذا يجعل ظهور المتلازمة أشدّ ندرة في ذلك الزمن، كما أنَّ الأطفال الذين يولدون بها لا يتمكنون عادة من البقاء على قيد الحياة طويلاً دون إجراء جراحة للقلب وأخذ العلاجات التي تطيل أعمارهم في زمننا.

يتمكن العلماء من تشخيص بعض الحالات النادرة عن طريق دراسة العظام فقط، مثل التقزم، أما متلازمة داون فهي مرضٌ متفاوتُ الآثار الى درجة كبيرة وعظام المصابين بها قد تتسبب بتشكيلة مختلفة من الأعراض، كما أنَّ الأعراض نفسها يمكن أنْ تكون خفيفة أو شديدة، لذا لا يمكن الاعتماد عليها في التشخيص وحدها.

نتيجة لهذا كله يواجه علماء الآثار صعوبة في الجزم بما إذا كان صاحب العظام مصاباً بمتلازمة داون، في حين لا يواجهون مثل هذه الحيرة عند الاستعانة بالمادة الوراثيَّة لتشخيصها (لدى البشر الأحياء على الأقل). بيد أنَّ العلماء كانوا عاكفين في السنوات الأخيرة على تجربة طرقٍ جديدة مع حامض "دي أن أي" المحفوظ المأخوذ من عظامٍ أثريَّة قديمة، ولو أنَّ الأمر لا يخلو من صعوبة لأن عليهم ببساطة إحصاء كروموسومات كاملة غير مجزأة في حين تتناثر الكروموسومات بعد الموت ويتفرق فتات أجزائها.

في العام 2020 استخدمت عالمة الوراثة الدكتورة "لارا كاسيدي" وفريق من زملائها الحامض الوراثي القديم لأول مرة في تشخيص متلازمة داون عند الاطفال اثناء فحص هياكل عظميَّة لأطفال دفنوا قبل 5500 عام في مناطق غرب آيرلندا. احتوت عظام احد الاطفال، وهو ذكر يبلغ من العمر ستة اشهر، على كميات عالية من "دي أن أي" المرتبط بالكروموسوم رقم 21.

عندئذ بدأ "آدم رورلاخ" وهو عالم إحصاء من معهد ماكس بلانك للانثروبولوجيا التطوريَّة بلايبزغ في ألمانيا، مع مجموعة من زملائه بتطوير طريقة جديدة في التحري عن البصمة الجينيَّة تمكنهم من التدقيق في آلاف العظام.

كان أساس المشكلة هو أن إجراءات البحث والتدقيق في "دي أن أي" القديم مرتفعة الكلفة للغاية إذا ما أراد الباحث الحصول على تسلسل "دي أن أي" عالي الجودة، لذا كان الباحثون يلجؤون الى اختبارات أرخص ثمناً. فإنْ كان العظم لا يزال محتفظاً بحامض "دي أن أي" ستظهر النتيجة بشكل شظايا صغيرة ومقطّعة من المادة الوراثيَّة، كما أنَّ الكثير منها قد يكون مصدره كائنات مجهريَّة نمت في العظام بعد الموت. رغم هذا تبقى هناك عظامٌ محتفظة بحامض "دي أن أي" مصدره بشري مشخص، وهنا كان العلماء يختارون النماذج ذات النسبة الأعلى من "دي أن أي" لإجراء مزيد من الاختبارات.  

علم الدكتور رورلاخ أن 10 آلاف من العظام البشريَّة قد تم فحصها بهذه الطريقة، وان نتائجها المفتتة مخزونة كلها في قاعدة بيانات واحدة، فخطر له ان بالوسع اجراء مسح لقاعدة البيانات بحثاً عن الكروموسومات الزائدة (كدلالة على متلازمة داون). لذا أعد مع زملائه برنامجاً قام بفرز شظايا حامض "دي أن أي" المفتتة وتصنيفها وفقاً للكروموسومات التي جاءت منها. بعد ذلك قارن البرنامج حامض "دي أن أي" المتأتي من كل عظم مع مجموعة العينات الكاملة، ثم حدد بدقة عظاماً معينة بالذات لاحتوائها على عدد غير اعتيادي من التعاقبات التسلسليَّة الدالة على كروموسوم معين بالتحديد.

بعد يومين من ذلك ظهرت نتائج الكومبيوتر. يقول الدكتور رورلاخ: "تأكدنا ان حدسنا كان في محله وأننا على حق." حيث اكتشف العلماء ان مجموعة المعهد تضم ستة عظام تحمل زيادة من حامض "دي أن أي" مصدرها نسخة زائدة من الكروموسوم رقم 21، وهو البصمة الدالة على متلازمة داون. ثلاثة من تلك العظام كانت لأطفال لا تتعدى أعمارهم سنة واحدة، بينما الثلاثة الأخرى لأجنة ماتت قبل الولادة.

بعد ذلك مضى رورلاخ متابعاً دراسة الدكتورة كاسيدي في 2020 فاستخدم البرنامج لتحليل شظايا التتابعات الكرموسوميَّة في هيكل الطفل الايرلندي فوجد انها تحمل ايضاً نسخة زائدة من الكروموسوم 21، ما يؤكد التشخيص الأولي للدكتورة كاسيدي.

علاوة على ذلك عثر رورلاخ على هيكل آخر يحمل نسخة زائدة من الكروموسوم 18، وتلك طفرة وراثيَّة تسبب الاصابة بحالة تدعى "متلازمة إدواردز" تسفر عادة عن الموت قبل الولادة. تلك العظام كان مصدرها جنين مات في اسبوعه الأربعين نتيجة تشوهات شديدة.

غير أنّ طريقة المسح الجديدة لم تمكن الدكتور رورلاخ وفريقه من تقدير مستوى شيوع متلازمة داون في ذلك الزمن لأن كثير من الاطفال المصابين بها كانوا يتوفون قبل مرحلة البلوغ وعظام الاطفال في هذه الأعمار أقل قدرة على مقاومة الظروف. لكن قدر الاطفال الثلاثة المصابين بمتلازمة داون وكذلك الطفل المصاب بمتلازمة إدواردز شاء لهم أنْ يدفنوا داخل مبانٍ قبل 2400 - 2800 سنة وكانت جثثهم محفوظة بشكل جيد في زمن كانت ثقافة الناس فيه تقضي بحرق جثث الموتى.

يأمل الدكتور رورلاخ ان يستعين باحثون آخرون بهذه الطريقة في دراسة حامض "دي أن أي" القديم لتسليط الضوء على تواريخ امراض نادرة أخرى بالطريقة نفسها.

عن صحيفة "نيويورك تايمز"