اللّغةُ العربيّة.. بين ضعف طرائق التدريس وحصار العاميّة

ريبورتاج 2024/02/25
...

   رحيم رزاق الجبوري

فنجد تدريس العلوم المختلفة وعلى وجه الخصوص: اللغة العربية، يتم بالعامية، وهذا الإجراء يحمل في طيّاته اتّهاما لها بعدم صلاحيتها للتدريس، وإن هذا لمن أشد الأمور خطرا عليها. فهي تُهان وتُنتهَك على يد من يُفترض فيهم إعلاء وإثراء وتعزيز شأنها، وإعادة مجدها العظيم. لأنَّ الفصحى المنطوقة لمْ يَعُدْ لها وجود في المدارس، ولا في الجامعات، ولا في الندوات العلمية والبحثية والثقافية، فضلا عن وسائل الإعلام المختلفة. ولهذا نبتهج ونفرح وتنبسط أساريرنا، حينما نشاهد مُعلّما أو مُدرِّسا للغة العربية وهو يتحدّثُ مع تلامذته بالفصحى؟ وكأنّ هذا الفعل فريد ونادر!.

انهزامٌ حضاري
يقول د. رابح بن علي (المتخصّص في علم اللسانيّات العامة، من الجزائر): إن "الإقبال على تعلم العربية في وقتنا الراهن تعوقه معوقات كثيرة، منها ما تعلق بالمتعلمين والمعلمين والمسؤولين عن المناهج التعليمية. وأما ما ارتبط بالمتعلمين فيتجلى في مناح شتى، لعل أبرزها ذلك الانهزام الحضاري الذي مُنِيَ به بعض متكلميها. وكأن التقهقر والرجعية اللذين يعاني منهما أبناؤها لهما صلة بهذه اللغة التي تحول بينهم وبين المضي قدما ومواكبة العالم المتطور، الذي تسوده اللغة الإنجليزية لغة العلم والمعرفة كما يرددون؟ وأما ما ارتبط بالمعلمين؛ فيكمن في تصدر بعض المتطفلين على هذه اللغة، الذين راحوا يتطاولون على أسسها وضوابطها التي تعاقب على تشييدها علماؤنا عبر قرون من الزمن. ويرون أن القواعد التي وضعت للغة العربية تعوق متحدثيها عن التواصل وتكبح طاقاتهم الأدبية وهلمَّ جرا. والحق أن هذا خلط في تصورهم لهذه العلوم وعدم تفريقهم بين علوم التصحيح وأعني بذلك النحو والصرف والعروض والقوافي والرسم والإملاء؛ وبين علوم التفصيح التي تشمل البلاغة والأدب وفقه اللغة؛ وبين علوم الاختصاص مثل النقد. فلا دخل للقواعد في ما يزعمون، وإنما القصور يكمن في عدم وجود الزاد اللغوي أو الثروة اللغوية التي تسهم في إكساب المتكلم طلاقة في التعبير إلى جانب كثرة النظر في النص المعصوم- القرآن الكريم- أو كلام العرب شعرا ونثرا، إضافة إلى استعمال العامية في العملية التعليمية بغرض الغاية تبرر الوسيلة كما يزعمون وهذا مع الأسف الشديد من أبرز الأشياء التي تضرب العربية في مقتل ذلك لأن استعمال العربية الفصحى لم تبق له إلا هذه المنابر الرسمية التي تحفظ له ماء الوجه".

تمحيصٌ وغربلة
ويتابع: "أما المعوقات فترجع إلى بعض المسؤولين في الدول العربية والإسلامية، فتظهر في ذلك الانصياع المطلق لكل المناهج التي تأتي من الغرب دون تمحيص وغربلة، بل إعطاء هذه المناهج الأولوية في العملية التعليمية وحصة الأسد في تدريسها على حساب اللغة العربية في حد ذاتها، حتى أضحى طالب اللغة العربية يتخرج في الجامعة وهو لا يميز بين الفعل والاسم، ولا يمتلك أدنى معرفة عن هذه اللغة التي أخذت من عمره بضع سنين؟".

افتخار
ويختم: "يجب بث روح المسؤولية في نفوس ناطقي اللغة العربية وحثهم وحضهم على ضرورة تعلمها والتفاخر والافتخار بها. فهي لغة علم وليست لغة شعر وأدب فحسب كما يروجون وكما قيل: لن تضيق اللغة التي اتسعت للوحي الرباني بالعلوم الكونية مهما اتسعت. وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نقول: نحن المطالبين بالتطور، لا اللغة العربية؛ لأن اللغة التي اختارها الله -عز وجل- لكتابه لا يليق بها أن تكون لغة متخلفة. وأما إذا قصدنا بالتطوير حوسبة اللغة وما شابه ذلك فنعْمَ التطور هو ".

تطوير
من جهته يشير أسامة الحمداني (صحفي ومدقق لغوي) إلى أن: "اللغة العربية تُشكل عنصرا أساسيا في بناء هُوية كُلِّ فردٍ من هذهِ الأمة، وعن اتقانها يُقال (من صح لسانه بالعربية صح عقله). فلأجل استمرار اللغة العربية، لا بد من تقديمها بحلةٍ جديدة تستجيب لتطلعات الأجيال، لذلك نحنُ بحاجةٍ إلى جهدٍ حكومي لتغيير المناهج الدراسية وتبسيطها، والاستفادة من التقنيات الرقمية في تطوير أساليب التدريس للغتنا، والابتعاد عن الجمود في طرق تعليمها، ودعم الطاقات الكفوءة الشابة من المختصين وزجهم في المجتمع لمراقبة دعايات الشوارع، ومنع شركات الدعاية والإعلان من تعليق أي لوحةٍ قبل مراجعتها من لجنةٍ مختصةٍ، تكون تحت إشراف وزارة الثقافة أو دوائر البلدية لتفادي الأخطاء اللغوية الشائعة والمحافظة على إرثنا الحضاري".

تقعيدٌ وتعقيد
خالد ياسين (طالب ماجستير دراسات لغوية، من سورية) يؤكد عدم وجود صعوبة في اللغة العربية وقواعدها، وأن لكل لغة قواعد ومبادئ ينحوها الناحي في الكلام والكتابة على حد سواء، ويتابع: "لولا الضرورة ما وضعت تلك القواعد، ولولا غيرة علماء العربية على تلك اللغة من الضياع بعد أن شاع اللحن والخطأ فيها، لما أفنوا أعمارهم في سبيل خدمتها، ولولا مكانة القرآن الكريم ومعزّته في قلوبهم لما أضاعوا أوقاتهم في التقعيد. لكن الحق يقال: أكثر مدارسنا تخطت التقعيد هذا إلى التعقيد، لسوء الأساليب والوسائل في تعليم اللغة العربية".

حلول
بدوره يطرح أسامة خضر (ماجستير لغة عربية ودراسات لغوية، من سورية) بعض الأسباب ويشير للحلول، في هذا المضمار، إذ يقول: "تعاني لغتنا من هجران أبنائها لها على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الميادين العامة، ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب أهمها: التخلف الحضاري للأمة العربية في عصرنا فاللغة مرآة للأمة، والتبعية الحضارية للغرب. وانتشار العولمة الثقافية التي كرّست هيمنة اللغة الإنجليزية، التي أصبحت لغة المال والأعمال. وانتشار ظاهرة (العربتيني أو العربيزي)، على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي لغة مزيج من العامية وتكتب بحروف إنجليزية. ولا ننكر صعوبة القواعد العربية وعدم إيجاد طرق مناسبة لتبسيطها وتحبيب الطلاب والناشئة بها. أما الحلول، فمنها: إعادة الاعتبار للغة العربية الفصحى في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ومنع تسمية المحال والمطاعم بأسماء أعجمية، وتبسيط القواعد العربية النحوية والصرفية، وتخليصها من الحشو والتمارين غير العملية، إضافة إلى إعادة الاعتبار لمادة اللغة العربية في المناهج الدراسية، وجعلها جذابة للمتعلم، انطلاقا من أنها وعاء الفكر وليست قواعد جامدة".

عزوف
إبراهيم عدنان (ماجستير لغة عربية-جامعة الموصل) يؤكد استشراء العزوف اللغوي في مجتمعاتنا؛ نتيجة لاعتماد اللهجات في الحياة اليومية بل حتى في المحافل الثقافية، وغيرها. ويتابع: "كل ذلك خلق دعوة لغمر اللغة العربية، بعيدا عن ملاحظة كونها هوية أساسية، فاللغة نجم نقتفي به أثر تأريخنا ومعتقدنا الديني عن طريق الرواية بلسانها قبل أن يدون ذلك الأثر في الصحائف، فأثرها غدا قياسا يعرف به الصواب من اللحن". ويشير يونس لطريقتين تعالجان هذا الضجيج: "الأولى تبدأ من التعليم الابتدائي، فيجب أن تأخذ اللغة مجالا أوسع من بقية العلوم. والثانية: وهذا الجانب خاص باستحداث طرائق تدريس جديدة لتعليم اللغة، وفقا للتطور الحاصل في مجال التعليم وإعداد مختبرات تقوية لمعلمي ومدرسي اللغة العربية من ناحية عرض المعلومة اللغوية بطريقة شيقة لا تعسفية تذهب به إلى انعدام ثقافي كما يحدث الآن، وأنت ترى أن رسم بعض الكلمات بات ثقافة متداولة: أنته، لاكن، ذالك، وشكرن؟!".

زحفٌ ونفور
ويذكر ناجي عبدالعاطي (ناقد وخبير ومدقق لغوي من مصر) في حديثه، قائلا: "تم تصنيف اللغة العربية بأنها من أصعب لغات العالم وبعدها اليابانية. ثم المتوسطة في الصعوبة كاللغة الروسية والصينية والهندية والتركية ثم اللغات السهلة كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية. ولهذا كثر التنفير من اللغة العربية، ولأسباب أخرى كالمناهج المعقدة في المدارس والجامعات ودور الحضانة وكثرة الشكوى من مناهج الصف الرابع الابتدائي، لوجود مصطلحات معقدة لا تتناسب مع مستوى التفكير عند الطلاب في هذه المرحلة العمرية. وقد يرجع سبب النفور منها؛ الى الاهتمام بتعلم اللغات الأجنبية في المدارس الخاصة ومدارس اللغات، وكذلك ما تعرض له المتعلمون من غزو ثقافي من خلال الإنترنت، وزحف اللهجات العامية إضافة إلى الثنائية اللغوية، وغياب الفصحى في المحافل والمؤتمرات وقاعات الدرس. ولكي نحفظ هذه الأجيال الجديدة، يجب علينا النهوض بلغتنا الأم والعمل على إثرائها والاهتمام بمفرداتها وتقوية أساليبها والالتزام بالنطق بالفصحى وتشجيع النشء، من خلال المسابقات والجوائز المشجعة".

واقِع
أستاذ اللّغة العربيّة في كلية الآداب-جامعة بابل د. فارس الحسينيّ، يشعر بألم وحسرة على واقع لغتنا، إذ يقول: "تمتازُ لُغتنا العربية الخالدة بِميزاتٍ عديدةٍ لا مجالَ لتعدادها، فهذه اللغة التي هي من ثروات الأُمة العربية التي لمَّا تُستغلَّ الاستغلال التام أو تُستثمَرِ الاستثمار الكامل الصحيح بَعدُ! وينبغي لنا أن نعيدها لحياتنا اليومية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والإعلامي، وتصحيح الأخطاء الّتي تفشَّتْ فيها، مثل كتابة (أحسَنتي) بدلًا من (أحسَنتِ) في مخطابة المذكَّرِ بِياءٍ بدلًا من الكسرة، وكتابة (رؤعة) بالهمزة على الواو بدلًا من (رَوعة)، وغير ذلك من التقليعات في التعليقات! وفي لغتنا أقولُ هذه الأَبيات المتواضعة:
لَنا لُغَةٌ لَها الفَنُّ البَدِيعُ
بِها قَد أزهَرَ الأَدَبُ الرَّفِيعُ
لَنا لُغَةٌ لَها جَوٍّ جَمِيلٌ
فَكُلُّ فُصُولِها فِينا رَبِيعُ!
لَنا لُغَة تُنِيرُ لَنا طَريقًا
إِذا سِرْنا؛ فَأَحرُفُها شُمُوعُ!
لَنا لُغَةٌ لَها رَوضٌ مَريعٌ
بِكُلِّ أزاهِرِ الدُّنيا يَضُوعُ
لَنَا لُغَةٌ بِهَا انبَهَرَتْ عُقُولٌ
لَنا لُغَةٌ بِهَا افتَخَرَ الجَمِيعُ!.