أدب الرحلات

ثقافة 2024/02/26
...

 علي لفتة سعيد

ليس من السهل عد أدب الرحلات على أنه أدب سهل يحتاج إلى قدرة كتابيّة ومعرفة لغوية واتجاهات الكتابة والتبويب.. فهو يحتاج إلى أمور عديدة كي تكتمل الصورة الذهنية والقرائية المباشرة وغير المباشرة، إذ هو أدب له خصائصه المعروفة وطرقه السالكة، كونه ليس أدبا متخيّلا كما القصة والرواية والشعر، وليس أدبا لا يحتاج إلا لعملية الجلوس أمام الأوراق وتسطير الكلمات كيفما تفتقت القريحة كما يقال، ومن ثمَّ صناعة عناصر الدهشة والصراع والتبويب وانتهاج أسلوب كتابي معين.

بل هو أدبٌ بحاجةٍ إلى اطّلاع، بوصفه أدبٌ يكتب عن المكان، والمكان لن يكون متخيّلًا، بل هو واقعي تماما، مكانٌ له تضاريسه وملامحه وحضوره، حتى لو كان مدفونًا تحت الأرض. 

مكانٌ يمكن أن يمضي عليه الرحّال كي تكتمل صورة ما عنده من أدبٍ وقدرةٍ على  تحويل الرؤية إلى كتابة، وبالتالي هو أدب الإمساك بالصورة والكتابة ولا يمكن فقط الاكتفاء بخاصيةٍ واحدةٍ وهو الاطلاع على  المكان دون وجود إمكانية تحويل الرؤية إلى نشاطٍ فكريّ أدبيّ يجمع فيه كلّ ما يمكن أن يوثّق لحالة المكان.

مثلما يوثّق لتاريخية المكان ذاته. لذا، فهو يحتاج إلى رحّالٍ قادرٍ على جمع العديد من صفات لا تقل أحداهما عن الأخرى وهو ما نجح به البعض وأبدع وفشل البعض الآخر واكتفى بالمشاهدات العيانية.

ربما لا نأتي بجديد في هذا القول باعتبار التعريف لهذا الأدب إنه “يصوّر فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور أثناء رحلة قام بها لأحد البلدان” لكنه ـ أي أدب الرحلات ـ كان في الماضي دليلًا لمصادر جغرافية، وكذلك تاريخية وحتى سياسية كما في رحلة السير في البحر إلى المحيط الهندي في القرن الثالث الهجري، ورحلة سلام الترجمان إلى حصون جبال القوقاز عام 227 هـ، بتكليف من الخليفة العباسي الواثق، للبحث عن سدّ يأجوج ومأجوج. 

وتضيف المصادر رحلات المسعودي مؤلّف مروج الذهب، والمقدسي صاحب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، والإدريسي الأندلسي في نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، هذا إضافةً إلى رحلة الرحالة المؤرخ عبد اللطيف البغدادي. 

فضلًا عن رحلات استكشاف الحضارة والعمق الأدبي والقصصي والحكم في هذه البلاد أو تلك. ولا يمكن مغافلة أدب رحلات ابن بطوطة وابن جبير الأندلسي، وكذلك لسان الدين بن الخطيب، والسفير المغربي أحمد بن المهدي الغزال، وهذه بعض الأسماء والمهتمين بأدب الرحلات في الماضي الذي كان أوجه في العصر الأسلامي الأول لأهداف نشر الثقافة الأسلامية في بلدان وأصقاع الأرض.

لنصل إلى رافع الهطأوي وحتى توفيق الحكيم ورحلته المسماة زهرة العمر وغيرهم الكثير على الخارطة العربية التي هي بالتأكيد جزء من العالم الكلّي الذي اهتم بـأدب الرحلات التي لا يقتصر كاتبوه على جزءٍ أرضيّ محدّد من العالم.

ولكن السؤال: كيف هو أدب الرحلات في حاضرنا وزماننا؟ أدب الرحلات ما بعد المتغيرات الحديثة؟ هل يحمل الجنبة الثقافية فحسب، أم يحمل ما كان أثرًا سابقًا في الجوانب الدينية والعقائدية والسياسية، وربما حتى الاستخباراتية؟ هل هو أدبٌ يحمل ما هو جديدٌ لسبر أغوار أمكنة العالم التي لا يمكن أن نراها إلّا من خلال كتاب الرحلات لهذا الأديب أو ذاك، أو هذا الرحالة أو ذاك؟ هل تمكّنت هذه الكتب من ايجاد شيءٍ لم يتم نشره، حيث أنَّ الرحلة هي سبر أغوار الأمكنة، ونحن نعيش عصر التكنولوجيا والتقنيات والصورة والفضائيات وغيرها؟

لا يبدو هذا الأدب في راحةٍ تامة، فهو قد يكون أدبًا يلامس المكان من الخارج. 

ويعتمد على ما سطّره الآخرون من معلومات، لأن لا أمكنة تحتاج إلى استكشافاتٍ جديدةٍ كاكتشافات بن بطوطة مثلا، أو فضولي البغدادي الذي جعلنا نكتشف أذربيجان رغم انه شاعر، وصار صاحب فضل على الثقافة الآذرية. وكذلك الرحالة ابن فضلان. 

في حقيقة الأمر يعاني هذا الأدب من تراجعٍ، وان كانت هناك تجاربٌ لإحيائه من خلال الجهد الشخصي للبعض، وإقامة مسابقات قليلة هنا وهناك لا تزيد على نصف أصابع اليد الواحدة. ويقف على رأسهم الرحالة الشاعر العراقي باسم فرات الذي جاب ربما نصف العالم وقد تهيّأت له الظروف التي لم تتوفّر لغيره، لكنه كان أكثر ذكاءً في استغلال العطش العام لهكذا أدب، مستثمرًا قدرته الشعريّة في تحويل الصورة إلى كلامٍ أدبيّ يمازج ما بين السرد والشعر، وبالتالي اختيار أماكن قد تكون بعيدة عن اهتمام المتلقّي العراقي/ العربي ليبحث عمّا دوّن قبل أن يدوّنه باسم فرات.

بمعنى أن هناك نوعين في أدب الرحلات.. الأول كتابة أدبية خالصة كتجربة باسم فرات، والثاني كتابة صحفية وهو ما امتاز به الناقد والصحفي حمدي العطار الذي ما أن يزور مكانًا حتى يتحوّل إلى تحقيقٍ صحفي.

ولهذا يمكن طرح السؤال.. ما ملامح أدب الرحلات في القرن الواحد والعشرين؟ وهل يصنف ضمن المتغيّرات التي طرأت على الأدب وتحوّلاته الشكلية والمضمونية؟ وما هو شكل هذا الأدب في الوقت الراهن أمام كلّ المتغيرات التي طرأت على عالم اليوم التقني؟

يمكن لنا ومن خلال الإطلاع على ما يتم نشره هنا وهنا أن نشكّل عدّة نقاطٍ لملامح أدب الرحلات الحالي من أنّه:

أولًا: أدبٌ يناقش الأمكنة وما حصل عليها تاريخيا لما فيها من مشاهدَ مذكورة يتم خلالها الاعتماد إلى المصادر أو الكتب الأخرى أو حتى وسائل الاتصال (الانترنت) ليصاحب المشاهدة العيانية بطريقة صحفية..

ثانيًا: أدبٌ لا يحمل في غاياته الاستكشافات الجديدة التي كان عليها الرحّالة الأوائل وحتى القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين حيث يسب أغوار كل شيء ويعطي حتى خرائط جديدة ويكتب العادات ويضع البيئات والأجواء وغيرها.. 

ثالثًا: أدبٌ يعتمد على شهود عيانٍ لا يتمتعون بنقل الحقائق بكاملها، وبالتالي فقدان الانحياز التاريخي أو الرؤية الخاصة وهي التي تنقل وجهة النظر الواحدة التي تتطابق مع وجهة النظر الخاصة بالرحّالة..

رابعًا: أدب خال من الاندفاع سواء السياسي أو نشر التعاليم الدينية أو حتى الاستخباراتي في الاقتحام لهذا المجتمع، أو ذاك والتي كانت واحدة من أهم عمليات التغلغل في الكشف عن أسرار المجتمعات من خلال الجغرافية التي تشهد الصراعات وتبويبها.

خامسًا: أدبٌ شخصيٌّ يعتمد على حركةٍ خاصة  تقف خلفها طموحات شخصية لها أبعادها المحصورة بالكتابة وفعلها الخاص، وبالتالي التحوّل من الهدف الإعلاني العام إلى الهدف الدعائي الخاص..

سادسًا: أدبٌ يُطغى عليه الجنس الأدبي واللغة الأدبية التي تجعل المتلقّي يقترب من المخيّلة الأدبية في الاقتراب من الفحوى العام لكاتب الرحلة.

سابعًا: أدبٌ تشخيصي لما هو قائم حاليًا وهو مفضوح في الصورة والصوت وفي التقنيات، لذا يستكمل الرحالة الأبعاد التاريخية عبر الاعتماد على مصادرَ مكتوبةٍ لإعطاء صدق الكتابة أو منحها الواقعية التي يبغيها.

ثامنًا: أدبٌ لا يصل إلى الأماكن العليا في المنطقة المكتوب عنها كما كان سابقًا، حيث تستكمل الرحلة باللقاءات العليا والاكتفاء بما هو حاصل من علاقات أو اجتهادات شخصيّة من هذا الطرف أو ذاك، لعدم وجود القدرة على المستوى المادي والفعلي.

تاسعًا: أدبٌ يحمل في بعض سماته الرؤية السياسية لطبيعة هذا الأديب أو ذاك أو الرؤية الاعجابية له سواء كان بالتأييد أو المعارضة..

عاشرًا: أدبٌ يحفل بالكثير من المقارنات بين المكان الذي جاء منه الرحّالة، والمكان الجديد، الذي يقف فيه أثناء الكتابة عند ردّة الفعل المقارناتية، كون الفعل هو المؤثّر في بدء المقارنة أساسًا وبالتالي سيغيب الانحياز.

أحدى عشرة: أدبٌ خالٍ من الفعاليات الإنسانية الجمعية الكلية بمعنى الاهتمام بالثقافات الإنسانية في هذا المكان أو ذاك.

ثانية عشرة: أدبٌ لا يقوم به رجال العلم والدين والفقه واللغة، بل تحوّل إلى اجتهاد أدبي لرؤية عيانية لحظوية.

باختصار، أدب الرحلات الآن أدب شخصي صحفي، أكثر منه علمي أو أدبي فأغلب القائمين عليه هم صحفيون يستثمرون سفرهم إلى الأماكن المختلفة، وهو لا يعني أنه أدبٌ غير جيّدٍـ لكنه يخلو من تلك الاندفاعات التي تعطي شواهد عليا غير مرئيةٍ ليضعها أمام المتلقّي. ولذا تكون المعلومات التي لديه خارج الرؤية المكانية في البحث عن التاريخ والجذور هي معلومات انترنيتية. وبالتالي فإن القدرة على التمييز بين الرحّال الأدبي والرحّال الصحفي هو الذي يتمكّن من تحويل الرحلة إلى مقطوعةٍ أدبيةٍ تعتمد على الرؤية والمخيّلة معا والاستفادة من التاريخ المكاني، فضلا عن أن رحّال اليوم ليس كما في السابق حيث تقف معه وتدعمه سلطة كاملة وامتيازات السفر والمال والعدد والعدّة، لذا فهي محأولاتٌ شخصيةٌ تهدف إلى نقل المشاهدة، ومن ثم تحويلها إلى كتبِ رحلةٍ يمتزج فيها الأدب بالصحافة.