روسيا تتقدم في أوكرانيا شبراً بعد شبر
توماس غيبونز نيف وأناتولي كورماناييف
ترجمة: أنيس الصفار
مع شنِّ الجيش الروسي هجومه على مدينة «أفدييفكا» شرق أوكرانيا في الخريف الماضي لاحظت القوات الأوكرانيَّة أنه أحدث بعض التغيير في تكتيكاته، بعد أن كان الطابور تلو الطابور من القوات الروسية يتعرض لفتك نيران المدفعية. حيث قسمت القوات الروسية تشكيلات مشاتها على وحدات أصغر حجماً من أجل تقليل تأثرها بالقصف المدفعي. في الوقت نفسه تصاعدت وتيرة الغارات الجوية الروسية في دكّ دفاعات المدينة.
كان هذا مجرد تعديل من بين تعديلات عديدة أجراها الروس للتمكن من قلب مقادير المعركة بعد العام الكارثي الأول. بيد أنَّ هذه التغييرات طغت عليها حقيقة واحدة ساطعة، وهي أنَّ الجيش الروسي لا يزال أكثر استعداداً لاحتواء المزيد من الخسائر الكبيرة في الرجال والعتاد من أجل تحقيق مكاسب ولو كانت صغيرة.
خسائر وأرقام
عتبة الإحساس بالألم لدى الروس مختلفة عن سواهم، كما يقول مسؤول غربي كبير، كما أنَّ منظورهم لما يعتبرونه «حداً مقبولاً من الخسائر العسكرية» ليس منظوراً تقليدياً.
فمنذ بدء الغزو الروسي الواسع أصيب أو قتل مئات الآلاف من الجنود الأوكرانيين والروس، بينهم عشرات الآلاف سقطوا في العام الماضي وحده في معركة مدينة باخموت الشرقية. هناك بلدة أخرى في الجنوب اسمها «مارينكا» سقطت أيضاً بيد الروس في شهر كانون الثاني بعد قتال شديد، وقد صاحب
ذلك مزيد من الخسائر.
معركة مدينة «أفدييفكا» كانت من بين الأعلى كلفة، حيث تشير تقديرات الخسائر الروسية المختلفة التي يتداولها المحللون العسكريون والمدونون المنحازون إلى روسيا والمسؤولون الأوكرانيون إلى أنَّ ما خسرته موسكو من جنودها أثناء الاستيلاء على «أفدييفكا» قد فاق ما خسرته على مدى 10 أعوام من القتال في أفغانستان خلال أعوام الثمانينات.
بيد أنَّ أعداد الإصابات يصعب التحقق منها، لأنَّ الجانب الذي يوقعها يميل إلى التضخيم بينما يميل الجانب الذي يمنى بها إلى التقليل، وبذا تبقى حقيقة الأمر هائمة بين الاثنين. التعداد الرسمي للقتلى السوفييت في أفغانستان، وهو يقارب 15 ألفاً، يعد أقل من الواقع إلى حد كبير.
كتب مدوّن عسكري بارز أنَّ الروس قد فقدوا في «أفدييفكا» 16 ألف جندي، وهو رقم لا يمكن التحقق منه الآن.
يقول «روب لي»، وهو زميل أقدم في معهد أبحاث السياسة الخارجية ومقره ولاية فيلادلفيا: «لا يزال الروس يتمتعون بميزة التفوق العددي على امتداد الجبهة رغم الخسائر الثقيلة التي لحقت بهم في أفدييفكا، لذا يبقى باستطاعتهم مواصلة الهجمات من اتجاهات متعددة.»
دعم أوروبي
يأتي التقدم الروسي المتثاقل في وقت تتحرك فيه الدول الأوروبية لتعزيز الدعم لأوكرانيا وحمايتها من أي عدوان روسي محتمل. وفي يوم الاثنين الماضي أزاح حلف شمال الأطلسي العقبة الأخيرة بوجه إقرار عضوية السويد، وذلك بعد أقل من عام على انضمام فنلندا إليه، وهذا التوسع في الحلف العسكري ينطوي على تحد لآمال الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في شق صف خصومه.
في يوم الأحد الماضي أعلن الرئيس الأوكراني «فلودومير زيلنسكي» أنَّ 31 ألف جندي أوكراني قد سقطوا في القتال ضد روسيا. لفتت تعليقاته هذه الانتباه لأنَّ من النادر أن يصرّح طرف مشارك في حرب بشيء عن أعداد الإصابات بين قواته، لكنَّ معظم المحللين والمسؤولين الغربيين يعتقدون أنَّ الرقم أعلى مما ذكره بكثير.
منذ بداية الغزو أبدت روسيا استعداداً لتحمل التكاليف الباهظة التي سيفرضها التقدم في مناطق شرق أوكرانيا المعروفة بالدونباس، والتي تعتبر «أفدييفكا» جزءاً منها. أجزاء من هذه المنطقة الناطقة بالروسية تقليدياً كان قد سبق احتلالها من قبل أعوان روسيا في العام 2014، ولتبرير القيام بغزو شامل واسع النطاق كان الكرملين يطلق الادعاءات بين حين وآخر بأنه إنما يدافع عن الناطقين باللغة الروسية الذين يطالبون بأن يكونوا جزءاً من روسيا.
منطقة الدونباس
يقول بعض المحللين العسكريين إنَّ فرض السيطرة الكاملة على منطقة الدونباس هو الحد الأدنى الممكن الذي تحتاجه الحكومة الروسية كي تقدم أوكرانيا للداخل الروسي بصورة الانتصار. ولعل هذا يفسر استعداد موسكو لتجرع الخسائر الفادحة مقابل تحقيق تقدم محدود.
تمثل «أفدييفكا» للدعاية الحربية الروسية قيمة ستراتيجية ورمزية بالنظر لقربها من «دونتسك» أكبر مدن الدونباس التي كانت تحت الاحتلال المدعوم من قبل روسيا منذ 2014. لذلك فإنَّ تأمين «أفدييفكا» من شأنه إبعاد المدفعية الأوكرانية عن المدينة وتقليل الإصابات المدنية إلى جانب تخفيف الضغط عن خطوط الإمداد الخلفية.
ميل الكرملين إلى إطلاق المزيد من القذائف وتحشيد المزيد من الجنود والاعتماد على قوة جوية أكبر حجماً وأعلى قدرة بكثير في هذه الحرب مكنه من قلب موجة القتال تدريجياً ضد الدفاعات الأوكرانية العميقة في «أفدييفكا». يقول بعض المحللين إنَّ الثمن الباهظ من الجرحى والقتلى كان مجرد نتيجة جانبية لستراتيجية أصابت هدفها إلى حد كبير، رغم الخسائر في الرجال والمعدات، لاسيما بعد أن انكمش حجم المساعدات العسكرية الغربية والذخائر الأوكرانية في نهاية المطاف،
حتى الآن على الأقل.
ستراتيجية الضغط
في الأسبوع الماضي كتب المحلل العسكري الروسي «روسلان بوخوف»، المقرب من قطاع الصناعات الدفاعية، أنَّ الهجوم على «أفدييفكا» كان جزءاً من ستراتيجية روسية أوسع مدى للضغط على القوات الأوكرانية على كامل امتداد الجبهة التي يقارب طولها 1000 كيلومتر تصاحبها اندفاعات اختراقية واستطلاعية لإنهاك العدو «بألف جرح».
كتب بوخوف في مجلة متخصصة بالشؤون الروسية الراهنة فقال: «بيد أنَّ مثل هذه الستراتيجية باهظة التكاليف جداً على القوات المسلحة الروسية من حيث الخسائر، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى استنزاف قواها. وهذا بدوره قد يعيد إلى الجانب الأوكراني زمام المبادرة من جديد.» غير أنَّ معظم المحللين يصدرون تقييمات واقعية تدعو للتفكر بخصوص آمال أوكرانيا بإحراز شيء في العام 2024 من دون تلقي مساعدات أميركية. فمع دخول الحرب عامها الثالث يناضل الجانبان لتوفير أعداد كافية من الرجال لمواصلة القتال على نفس المستوى من الشدة، وهنا يمنح تعداد سكان روسيا الأكبر بكثير، إذ يقارب 144 مليون نسمة، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف سكان أوكرانيا، موسكو اليد العليا بشكل كبير في جانب القوة البشرية. ولو أنَّ وتائر الخسائر الروسية تحدّ بدرجة ما من تأثير
هذه المقارنة الحسابية.
قوات الاحتياط
قرار الكرملين باستدعاء ما يصل إلى 300 ألف رجل في أيلول 2022 للخدمة العسكرية (لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية) أصاب الأمة بالصدمة والتوتر، وفقاً لاستطلاعات الرأي. وعندما ابتدأت الحرب كان مئات الآلاف من الرجال قد فرّوا إلى خارج البلاد بالفعل، الأمر الذي هدد بتحطيم صورة الحياة الطبيعية التي حرص بوتين على رعايتها.
منذ ذلك الحين حاولت الحكومة تأجيل الجولة التالية من التعبئة العسكرية لأطول مدة ممكنة، لكنها عمدت بدلاً من ذلك إلى تعزيز الحوافز المالية والقانونية لأجل جذب السجناء المحكومين والمدينين والمهاجرين وغيرهم من الفئات الاجتماعية الضعيفة إلى الجبهة كمتطوعين. كذلك بدأت الحكومة بتطبيق نظام الخدمة العسكرية الإلزامية على الشباب بصرامة أشد بعد أن كان يمارس بتساهل وتراخ.
في منشور ظهر على تطبيق تلغرام للمراسلة في 18 شباط نسب مدون عسكري روسي مؤيد للحرب اسمه «أندريه موروزوف» إلى مصدر عسكري لم يسمّه بالاسم ادعاءه بأنَّ القوات الروسية قد تكبدت 16 ألف عنصر في جانب الخسائر البشرية غير القابلة للتعويض، بالإضافة إلى 300 مركبة مدرعة في الهجوم على «أفدييفكا». أما القوات الأوكرانية فقد تكبدت ما بين 5 آلاف و7 آلاف عنصر بشري غير قابلة للتعويض في تلك المعركة. هذه الادعاءات كلها لم يمكن التحقق منها عن طريق مصادر مستقلة.
إنهاك الجانبين
تعثر الغزو الروسي لأوكرانيا متحولاً إلى إيقاع قابل للتنبؤ نسبياً، إذ لم تعد لدى أي من الجانبين القدرة على شن هجمات واسعة تخترق خطوط العدو وتسمح بإحراز مكاسب سريعة على أرض المعركة. بدلاً من ذلك أخذت وحدات أصغر حجماً تنحو للتقدم إلى الأمام بإسناد قوي من المدفعية والطائرات المسيرة
لكسب أشبار من الأرض.
رغم الخسائر التي تكبدتها في «أفدييفكا» يتوقع المسؤولون الأميركيون أن تواصل روسيا تسليط ضغطها على القوات الأوكرانية عبر أجزاء عديدة من خط المواجهة، على أمل تداعي وحدات كييف وانهيارها. الهزيمة في ساحة المعركة، إلى جانب تداعي الروح المعنوية– التي فاقمها تخلف الولايات المتحدة عن مواصلة الإمداد بالذخائر- قد تتيح لتشكيلات الكرملين فرصة استغلال الوضع على الأرض.
بيد أنَّ الجيش الروسي، كما يقول أولئك المسؤولون، لم يعد لديه ذلك النوع من قوات الاحتياط القادر على التحرك فوراً لاستغلال الدفاعات المتهاوية التي خلّفها الانسحاب من «أفدييفكا». حيث تقدّر وكالات الاستخبارات الأميركية أنَّ القيادة العسكرية الروسية كانت تأمل في تشكيل قوة قادرة على إحداث اختراقات سريعة عبر خط الجبهة، ولكن الخطة تهاوت بسبب الحاجة إلى تعزيز دفاعاتها خلال الهجوم الأوكراني
المضاد في العام الماضي.
مهاجمة المواضع حسنة التخندق تعني أنَّ القوة المهاجمة ستكون معرضة لخطر أعظم بكثير، لأنَّ الجنود سيكونون مكشوفين، كما أنَّ إخلاء جرحى وقتلى المعركة سيصبح أصعب بأضعاف مضاعفة عما في حالة القوات المتخندقة. في أحيان كثيرة كان الجنود الأوكرانيون يصابون بالذهول من أعداد قتلى وجرحى الجنود
الروس على أرض المعركة.
رغم هذا تواصل القوات الروسية تقدمها. ونظراً لتدني كميات ذخائر المدفعية إلى حدود الشح الحرج أصبح الأوكرانيون أكثر انتقائية في استخدامها. يقول قائد إحدى الوحدات إنه طلب إسناداً نارياً ضد مجموعة من الجنود الروس فإذا به يتلقى رفضاً لأنَّ عدد الجنود الروس ليس بالحجم الكافي الذي يبرر توجيه ضربة مدفعية إليهم.
* عن صحيفة «نيويورك تايمز»