قدرية حسين والتاريخ النسوي

ثقافة 2024/03/06
...

د. نادية هناوي

قدرية حسين(1888 - 1955) مؤرخة تركية ترجمت لأعلام النساء المسلمات في كتابها(شهيرات النساء في العالم الإسلامي) وصدر باللغة التركية عام 1922 وترجم إلى العربية عام 1924، وفيه قدمت صورة للنهضة الأدبية مطلع القرن العشرين، ودللت بوعي تاريخي على أهمية التوثيق التاريخي للمرأة بوصفها لبنة من لبنات التحديث الحضاري وبؤرة إشعاع ينهض بالواقع ويطور المجتمع، فلا فضل لجنس على جنس ولا قومية على أخرى فالكل سواسية، تقول في مفتتح الكتاب:(اجتمعنا معشر أهل التوحيد تحت اللواء المحمدي المبارك نازلين عند قوله عز وجل إنما المؤمنون أخوة فرفعنا ستور الجنسية وأزلنا حوائل القومية فأصبحنا جميعاً منذ ذلك اليوم بنعمة الله إخواناً أسرة واحدة)
وتأخذ الترجمات التي تضمنها كتابها شكلا سيريا وبقالب كتابي قصير ومختصر يرسم لكل علم من أعلام النساء صورة شخصية من ناحية التخصص والإبداع في مجال ما من مجالات الحياة. وتقوم طريقة قدرية على تسجيل الحوادث التي اشتهرت بها نساء عرفن بالفضل والكمال في أصقاع مختلفة من البلدان الإسلامية سواء من العرب أم من الترك أو الهند أو جاوة أو العجم إلى غير ذلك فتترجم أحوالهن مستعينة بالمصادر المهمة والمراجع الموثوق بها التي تؤكد ما أدته كل واحدة منهن من أدوار مهمة في التاريخ الإسلامي. ولقدرية حسين آراء قيمة تدلل على ما تمتلكه من وعي مبكر بمسائل النسوية ومن ذلك مثلا:
1) أنها ترى أن المرأة في الشرق ظلمت ظلماً كبيراً وفي كل شأن من شؤون حياتها وتخاطب هذا الشرق قائلة:(تمر عليك الأعوام والأحقاب فتزداد حاجتك إلى النور .. أيحسن بهم أن يدعوا دورهم وربوعهم في ظلام دامس وأن يفرطوا فيما كان لهم من شرف الحال وجلال القدر)
2) تأكيدها أن مساهمة المرأة في المعترك الحياتي مهمة لأنها هي التي تجعل نهضة الأمة وتجديد دورها مرهونة بالمرأة مثلما هي مرهونة بالرجل.
3) امتلاكها نزعة الانتقاد إزاء كل من يتمسك بأهداب القديم ويسير على عادات وتقاليد (يفرط في محبتها إلى حد إنزالها منزلة العقائد والمذاهب) ومن تلك العادات أن النساء لا يحق لهن التربع على منصات الحكم في بلاد المشرق ولا يوثق بهن في الإدارة ولا يعتد برأيهن ولا وزن اجتماعياً لهن.
4) استنهاضها الهمة في النساء الشرقيات وضرورة أن يضعن نصب أعينهن (ترك السفاسف ولتفهم الواحدة أنها ليست لعبة أو زينة. أننا نعيش في زمن لا يتسع لأمثال هذه الصغائر علينا أن نفهم حياة السلف ونعمل على تخليد صحائف أعمالنا ولتشعر الواحدة منا بالمسؤولية الملقاة على عاتقها. الفرد جزء من الإنسانية ومجموع الخلق هي الإنسانية وما نحن الشرقيات سوى قطعة منها)
5) تشديدها على أهمية التخطيط والتنظيم في تطوير واقع المرأة فتتمكن بذلك من احتلال مكانها الصحيح في الحياة، وإلا يمحى(اسمنا من صحيفة الوجود فليس أمامنا سوى طريق السعي والعمل بنظرية تنازع البقاء بما فينا من جهد وحسن نية إلى أن نتمكن من إزالة ما علق بأذهان الأوروبيين ضدنا من الأوهام والنوايا السيئة . لو استطعنا أن نصل إلى الدرجة التي كانت عليها نساء الشرق قديماً لوقفنا قليلاً في سبيل تدهورنا في هوة التدني)
6) اعتبارها التاريخ مصدر العظة والعبرة وهو الميدان الذي فيه تتجلى الأهداف المصيرية للنسوية وفي مقدمتها نهضة المرأة العصرية.
وهذه النقطة الأخيرة هي التي جسدتها قدرية حسين أكثر من غيرها بشكل عملي في كتابها(شهيرات النساء في العالم الإسلامي) فقامت بالبحث في كتب التاريخ العام والإسلامي عن شخصيات نسوية لأجل الاقتداء بسالفات العصر الإسلامي.
وقد أوصلها سعيها نحو توسيع المدارك وشحذ القرائح إلى الشعور بالأسف على مؤرخي الإسلام (الذين لم يتسع الوقت لأحدهم ليسردوا سيرة كاملة) لسيدة من سيدات الإسلام. فالتاريخ يذكر الشخصيات النسوية عرضاً لا قصداً ولذا توزعت سير السيدات كشذرات في بطون التاريخ.
ويقع الكتاب موضع الرصد في جزأين: أرَّخت في الجزء الأول منه لأربع شخصيات نسوية هن على التوالي: أم المؤمنين السيدة خديجة الكبرى وأم المؤمنين عائشة والعباسة أخت الرشيد والملكة عصمة الدين شجرة الدر . وأرخت في الجزء الثاني لأربع شخصيات نسوية هن على التوالي: سيدة النساء فاطمة الزهراء وتاج الرجال رابعة العدوية وأميرة المؤمنين زبيدة والأميرة صبيحة ملكة قرطبة.
وأكثر السير غزارة هي سيرة عائشة ليس لأن المؤرخين وثقوا لحياتها بشكل أكبر فأعطوها مساحة في تواريخهم أغزر من غيرها وإنما أيضاً أن الحوادث التي شاركت فيها وعاشتها وعاصرتها كانت من الأهمية والقدسية ما جعل التاريخ يسرد كثيراً من تفاصيل حياتها. وقد تناولت قدرية ذلك كله في سبعة فصول منها زفاف عائشة وحديث الإفك وحجة الوداع وواقعة الجمل وأواخر أيامها وغيرها.
وإذ تنقل قدرية حسين بأمانة ما ذكر من أخبار وحوادث تتعلق بالسيدات (خديجة وعائشة وفاطمة الزهراء) عليهن السلام فإنها كانت مع الشخصيات الأخرى أكثر تحرراً في النقل والتفسير الاجتماعي والنفسي لبعض الحوادث كما أدلت بدلوها في ما يتعلق بالمسكوت عنه في التاريخ ولم ينقله المؤرخون وبما يعزز تراجمها ويحقق غايتها في التوثيق للنساء المشهورات. فمثلاً أرجعت المصير المأساوي لشجرة الدر إلى السياسة وليس إلى نفسيتها فقالت:(لم تكن شجرة الدر شخصية كاملة ولكنها استطاعت أن تظهر على مسرح الحكم والسياسة في زمن عصيب وكوَّنت لها قصة تشتاق الأذان لسماعها وهذا ما حدا بي إلى تصوير قصتها وشؤون حياتها للقراء)
وتعاطفها مع شجرة الدر إنما هو رد الاعتبار لهذه الشخصية التي ألصق بها التاريخ العام كثيراً من التهم، فقالت:(كانت شجرة الدر رغم مظاهر حياتها الخصوصية امرأة مسلمة ذات ميزة خاصة في حياتها العمومية كانت على علم تام بنفسية الشعب ولم تكن  حكومتها استبدادية)
وتعاطفها مع زبيدة بغداد جعلها تشبه ملاقاة موكبها من قبل الأمين ومعه الوزراء والأمراء والأعيان بموكب بلقيس وهي تلاقي النبي سليمان،(هنا أخذ الخيال بيدي إلى منظر آخر في صفحات التاريخ إلى صورة بارزة للحلال والاحتشام إلى موكب اجتماع ملكة سبأ بسيدنا سليمان عليه السلام ودخولها فلسطين تحفُّ بها آيات الاحتشام ومظاهر الجلال والكمال)
ولقدرية حسين كتاب آخر عنوانه (طيف ملكي) قدمت فيه قصصاً هي فيها الساردة والمؤرخة التي تستوحي تاريخ مصر القديمة وتحديداً تاريخ ملكات الفراعنة. وسبب تركيزها على سرد هذه القصص هي آثار مدينة طيبة التي زارتها خلال مدة إقامتها في مدينة الأقصر المصرية وفيها تخيلت أرواح نساء ملوكية(منها عرفت كيف كان صنيع أولئك الملكات اللواتي حلت فيهن روح الوطن أجيالاً طوالاً وفي حضرتهن خطرت على القلب ذكرى ملكات أخر من ملوك العهد الإسلامي العظيم)
وأكدت في هذه القصص أن الشرق لم يحط بأخبار هؤلاء الملكات فنسي ماضيهن(ممن كن لتاجه الخلاب زينة لا يبلغها بثمن) وغالباً ما تتخذ القصص شكل حوارات واستبطانات لدواخل أولئك الملكات(كان محيا الملكة العظيمة الهادئ الصافي يتهلل بابتسامة هي لغز من الألغاز كأنما هي تتحدى غابر الدهر كما تتحدى كل ما في الماضي من اضطهاد وعصور إهمال ، أ ليست من جوهر الآلهة ابنة آمون الفاتنة)
وكثيراً ما كانت تقارن ملكة فرعونية بملكة مصرية من العصور الإسلامية ففي الفصل الأول وعنوانه(طائف حلم: عند الملكة هاتاسو في الدير البحري) نجدها توازي بين ملكتين هما هاتاسو الفرعونية وشجرة الدر المصرية وسألت الآثار الباقية عن هاتاسو وكيف(سوَّلت الدناءة لرجال دولتها أن يعيبوها بأنها لم تكن إلا امرأة) وفي كتابها(سوانح الأميرة) شبَّهت الملكة تابا في الفكر والقدرة وتولي الحكم بالسلطانة كوسم غير أن(التاريخ يذكر اسميهما مقروناً بالشدة والغرور).
وتحسَّرت على زمان كانت فيه النساء فاعلات وحاكمات وإلهات(آه لو أن نساءنا نساء الشرق عرفن كيف يحتفظن بتلك الهمة الأولى) ووجهت اللوم إلى المؤرخين لأنهم آثروا أن يسحبوا على نساء تستحق الإعجاب ذيل النسيان فلم ينلن حسن الذكر الذي هن جديرات به. وتأسفت حين وجدت أن قصة الأميرة نوفريت(ظلت قصة.. خرافية ولم يبقِ لها التاريخ مزية أكثر من ذكر اسمها الموسيقي).
وإذا علمنا أنها فرغت من كتابها هذا عام 1920 أدركنا أنها كانت سابقة لباحثين ونقادٍ كثيرين من الذين شككوا في عمل المؤرخين، فكانت هي تتحرى الدقة وتحاول أن تكمل ما تركه المؤرخون في مدوّناتهم من نواقص ومتروكات.