طبقيَّةٌ مبكرة

آراء 2024/03/10
...

طالب سعدون

يؤدي التعليم مهمة مركبة على مستوى الفرد والمجتمع معا.. يطور المهارة الذاتية للفرد ليكون عنصرا فاعلا في بناء المجتمع ويضمن مستقبلا مشرقا للبلاد ايضا.. كما يحقق العدالة والمساواة بين الافراد في توفير فرص العمل، من خلال التنافس في المهارة لاشغال الوظائف العامة والخاصة.  التعليم يُعد (الضرورة الثالثة) في الحياة فهو (كالهواء والماء) بالنسبة للانسان من وجهة نظر الاديب العربي طه حسين.. هو حق من حقوق الانسان الاساسية،

كونه اساس الثقافة والنهضة والتقدم في المجالات كافة، ولذلك تكون مثل هذه المهمة الخطيرة من واجبات الدولة مجانا، وتحظى بالاولوية، وتتصدر لائحة العقد بينها وبين المواطن الذي ينظمه الدستور.
 مجانية التعليم تضمن تساوي الجميع في الحصول على التعليم بكل مراحله من مصدر واحد، لأن مهمته تكون مناطة بالدولة فقط في كل مراحله ومجانا، دون شريك خارجي أو داخلي معها، ابتداء من رياض الاطفال صعودا.
وعندما يدخل القطاع الخاص شريكا للدولة في هذه المهمة الخطيرة فهو يريد أن يحصل على عائد مجز، وعندها يتحول التعليم إلى سلعة، تتفاوت فيها الاجور والجودة، وتجارة، ومنافسة بين المستثمرين يتحكم فيها العرض والطلب، ويتعامل مع الطالب كونه (زبونا) يحصل من التعليم على قدر ما يدفع من المال.. فأجور المدارس التي تدرس باللغة الاجنبية غير العربية مثلا..
 ومن الطبيعي أن يكون مثل هذا التعليم متاحا أمام الميسورين، ومغلقا بوجه الفقراء، لتكاليفه العالية، خاصة بالنسبة إلى الأسر، التي لديها عدد من الاولاد يفوق إمكاناتها المادية، وليس أمامها غير إرسالهم إلى المدارس الحكومية، ومنها من لم تكن بمستوى التعليم الخاص، من حيث الدراسة، والابنية وعدد الطلبة في الصف، والخدمات المختلفة، فينشأ تفاوت علمي واجتماعي بين الطلبة، ويحصل الانقسام بين فئتين، ويتعمق اكثر بتقدم العمر والمرحلة..
والمدارس الحكومية هي الاخرى لم تسلم من التمايز الاجتماعي والطبقي بين الطلبة أيضا بسبب بروز ظاهرة جديدة، تسمى الدروس الخصوصية التي لم يعرفها الطلبة من قبل، وتتطلب مبالغ فوق طاقة عائلة الطالب الفقير، أو يدفعها على حساب حاجات أساسية للاسرة..
ومن الخطورة بمكان أن تنشأ (الطبقية) عند الانسان من مرحلة الطفولة، وتستمر في مصاحبته في المراحل اللاحقة من دراسته، وبالتالي يتأقلم معها، ويتصرف على أساسها، وتصبح جزءا من تكوينه الحياتي العلمي والنفسي والاجتماعي.
وكلما تتراجع المدارس الحكومية تتوسع المدارس الخاصة، و يزداد التمايز الطبقي والاجتماعي بين الطلبة، ويظهر التفاوت العلمي بوضوح كبير.. فهناك مدارس تدرس باللغة العربية، وأخرى باللغات الاجنبية، ناهيك عن التفاوت في الابنية والخدمات والنشاطات الاجتماعية التي توسع مدارك وفهم الطالب، وهي بالتاكيد تتطلب مبالغ أضافية بمقدور الأسر الغنية دفعها ببساطة..
 فهل تنتبه الجهات المعنية إلى هذا الموضوع، الذي يخلق تمايزا نفسيا وطبقيا بين الطلبة، يلحق الاذى بالفقير، وينعكس على البلاد كلها فيما بعد بالتأكيد، ويقسم المجتمع على هذا الاساس إلى قسمين، والطلبة إلى فئتين... فئة تشعر بالانسحاق والالم والمرارة لفقرها، واخرى تفخر وتتباهى بمستواها الاجتماعي والطبقي والعلمي..
الموضوع بحاجة إلى وقفة جادة من أعلى المستويات السياسية والرسمية والعلمية لدراسة هذه الحالة، ومخاطرها الاجتماعية والسياسية والعلمية على المجتمع ككل وليس على الطلبة فقط، وذلك بالارتقاء بمستوى التعليم الحكومي من جميع النواحي العلمية والخدمية، وتخصيص حصة في الموازنة العامة تناسب أهمية التعليم وضرورته في حياة الانسان والمجتمع، وعندها يكون الطلبة طبقة واحدة في المدرسة، وإن تمايزوا في البيت في مستوى المعيشة والامكانات المادية لإسرهم...