تأويل التجريب الشعري

ثقافة 2024/03/11
...

  د. كريم شغيدل

وظف الشاعر الراحل عبد الأمير جرص الأرقام والمعادلات الرياضية، في مواضع عديدة من تجربته الشعرية، ففي مفتتح أعماله الشعرية التي طبعت بعد وفاته نجد نصاً قصيراً بعنوان(إهداء) يوظف بالتناص مع سورة يوسف الأرقام التي وردت في بعض آياتها: «لعيني أبي الضرير/ ليعقوب الطاعن/ في الحزن/ أمنح الكواكب الأحد عشر/ والشمس والقمر/ والقميص المقدود».

فرؤيا يوسف توظف من غير تأويل (تأويلها بحسب التفاسير أن الكواكب هم أخوته والشمس والقمر أبواه) بينما النص يوظفها بصفتها كواكب يمنحها لعيني الأب الذي يتحول إلى يعقوب بسبب عماه وحزنه، ويوظف ألفاظ عددية من باب الكثرة أو ما يسمى باللانهائي في المفهوم الرياضي كقوله: «أعداد لا تحصى من القتلى».. وكذلك: «أنا ذا/ أحتشد كآلاف القتلى».. أو العكس من ذلك يوظف ألفاظاً لأعداد محددة كما في: «واحدٌ أنا/ وإن لم/ أنتَمِ». 

ويوظف نص «مطر أسود» عدة ألفاظ لأرقام ذات محمولات ثقافية: «الدنيا: ما زالت بلا مأوى

تنبح داخلي/ منذ أن طلّقتها ثلاثاً/ أيها الإمام/ أبكي/ لأن الرب الواحد، أخفى اسمه/ وتركني أُسبِّح باسمك/ أيها الـ «التسع وتسعون» لماذا.. ؟!». 

تضمن النص إحالات ذات بعد ديني- وجودي نوعاً ما، فالطلاق بالثلات يحيل إلى مفهوم فقهي معروف، أسقطه النص على الحياة بلفظ ديني أيضاً هو (الدنيا)، وهناك إحالة إلى مقولة للإمام علي(ع) بشأن طلاق الدنيا، كذلك الإشارة إلى ما يسمى بالمفهوم الديني (اسم الله الأعظم) المجهول الذي يعد مفتاحاً للوجود والأسرار الكونية، إلى جانب أسماء الله الحسنى وعددها المعروف، كما للشاعر توظيفات يومية كقوله «الشاعر في المقهى، يعدُّ الساعات». وفي قصيدة (أصابع) التي يحيلنا مقطعها الأول إلى ما ختم به سعدي يوسف قصيدته (استطراد) المهداة إلى الشاعر الراحل محمود البريكان في مجموعته (بعيداً عن السماء الأولى) الصادرة في العام 1970،» أسير مع الجميع، وخطوتي وحدي»، الدالة على ادعاء التفرد أو ربما الشعور بالغربة، بدلالة عنوان المجموعة، فهي مكتوبة في الجزائر، إذ انخرط الشاعر في حياة الغربة أواخر ستينيات القرن المنصرم، وهي جملة ثقافية باتت تشكل عنواناً لتجربة سعدي يوسف الذي اتخذ منها لافتة للتعبير عن تفرده أو اغترابه وسنوات النفي بعيداً عن السماء الأولى للوطن الأم، وهي لا تخلو من نسق ثقافي مضمر يدل على شعرنة الذات وتضخيم الأنا والإحساس الطاغي بالواحدية، كما يمكن تأويلها تأويلاً مغايراً، بكونها دالة على مسايرة الجميع والتفرد بما يحقق المنفعة الشخصية، أو يجسد النزعة البرغماتية لأنا الشاعر. بينما يوظف النص في مقطعيه التاليين الأعداد أرقاماً وكتابة منتقلاً من الأصابع الخمس إلى اليد الواحدة بدلالة تنقض مدلول المقطع الأول، فللتصفيق دلالة واضحة على تكريس الواحدية وتملق السلطة والنفخ في صورة الطاغية:» قديماً كنت بينكم/ أواه/ كم كنتُ/ وحدي* * * كنت أعدّكم بأصابعي/ أما أنتم فلا تعدّون/ سوى أصابعكم* * * قد أكون مخطئاً/ وقد لا أكون (1،2،3،4،5)/ خمسة لا غير/ خمسة وحسب/ سيداتي آنساتي سادتي/ أنصحكم أن تعيشوا بيد واحدة/ لأن اليد الواحدة/ لا تُصفِّق”. 

وواضح التهكم هنا من ظاهرة التصفيق التي سادت تمجيداً لسلطة الدكتاتور وإشباع عنجهيته، والنص لا يخلو من تحريض، على الرغم من أن المقاطع السابقة ذات مدلول مختلف إذ نبهت إلى أن الذات الشاعرة تعد الآخرين بينما الآخرون منكفئون على ذواتهم لا يشعرون بوجودها، وكأن النص أراد القول إنَّ الذات الشاعرة غير مرئية خارج قطيعية المجتمع، لكن النص يحقق التفاتاً ليتحول من خطاب الذات وغنائيتها إلى الخطاب الإعلامي الموجه للآخرين، موظفاً اللازمة الافتتاحية للخطاب الإعلامي لإيصال رسالة تهكمية مبطنة استناداً إلى مثل سائر أزيح عن مدلوله الدال على التعاون، بانزياح دلالة (التصفيق). وفي قصيدة (الأغصان المائلة) يوظف الشاعر ألفاظ القياس (ارتفاع، مائل، مستقيم، بداية، نهاية) ويتكرر توظيف الأرقام والأشكال الهندسية في عدة قصائد بصور ودلالات مختلفة، كما يوظف شكل المعادلة الرياضية: “خسارتنا= صفراً من العمر= صفراً من الأصدقاء هاجروا إلى ليبيا/ صفراً من الخبز، هاجر الآخر إلى الأردن/ وكانت الضريبة بقائي/ كانت النتيجة = صفراً من

العمر”.

إذ تشتغل دلالة الصفر بمثابة نتيجة للحياة في ظل الهجرة الجماعية للعراقيين بسبب قسوة الحصار الاقتصادي واليأس من تغير الحال، حتى أصبح البقاء في الوطن ضريبة يدفعها المواطن من عمره ومستقبله: “ولأن الماضي يقطع الحاضر عبر صفرٍ من المستقبل/ عبر أراضٍ شاسعة/ من الأصفار”.

وفي قصيدة (حقائق علمية) يتم توظيف معادلات رياضية بنوع من التجريد: “انظري/ كيف أصبحت س= ص/ بينما(ع) = ق”. 

وفي مقطع آخر يشتغل النص على شكل المعادلة الرياضية بمضمون شعري ذي مدلول تهكمي عن الموت والقمع واليأس والحرب وفقدان الأمل والجمال: “بإمكان العلماء أن يحسبوا موتي وذلك بأَن يعودوا به إلى عناصره الأَولية../ إلى الجذور الأولى للصمت، ثم يضربوه في عدد سنوات اليأس/ أي قبل أن ينهار الأمل على رؤوسنا ورؤوس قصائدنا الجميلة/ بحوالي ثلاث وثلاثين قذيفة هاون من طراز(62) ملم”.