جدليَّة الدين والفلسفة

آراء 2024/03/14
...

 د.علي المرهج


يعترض الفلاسفة على التعبير الطقوسي في المعتقد الديني، ويعدونه شكلًا من أشكال تغييب العقل الفردي لصالح الحس المشترك أو الجمعي، لذلك حينما يؤكد بعض المفكرين تعارض الفلسفة مع الدين، يُعد أمرًا طبيعيًا نتيجة اختلاف أو تباين المنطلقات بين المبحثين، وهذا لا يعني أننا نصر على عدم التلاقي بينهما، ولكن وجود التلاقي لا يعني التوافق بين المجالين كما ذهب إلى ذلك جل فلاسفة العصور
 الوسطى.
الفرق بين الدين والفلسفة بين وواضح، لأن الدين يقوم على الإيمان وهو المقولة الجوهرية التي تنبني عليها قناعات الإنسان المتدين، اما توكيدها وفق منطق عقلاني فهذا أمر عرضي في المتبنيات الدينية عند من يسعون للتوفيق بين الدين والفلسفة، لأن الإيمان الديني إيمان بما قد يكون مفارقًا للعقل.، بينما في الفلسفة تجد أن كل فكر قابل للنقد ولا قداسة لمعتقد من دون إيجاد الدليل العقلي
عليه.
قد تعارض الفلسفة أي سلطة بما فيها سلطة النص المقدس وتُشكل عليه، بينما الدين يخط لنا مسارات للحياة مستقاة من نص له قداسته، بل وتتسع مساحة القداسة فيه لأشخاص
وأمكنة.
الدين يبحث عن المعنى الذي يتجلى احيانًا في الشعور بالطمأنينة التي يمنحها لنا الإيمان الديني، بينما الفلسفة تهتم بالصدق والتحقق من اللغة الدينية، عبر إخضاعها للمنهج الاستدلالي أو
الاستقرائي.
ربما يحتج البعض بالفلسفة القروسطية إسلامية كانت أم مسيحية، بأنها كانت توفق بين الفلسفة والدين أو بين العقل والإيمان، وقل بين الحكمة والشريعة، وهذا امر طبيعي بحكم تحديات المرحلة تاريخيا، حينما كان رجال الدين أو الكهنوت لهم السيطرة على الخطاب
المعرفي.
لا أظن أن الفلسفة تنفع من يغلب على قلبه الإيمان، لأن إيمانه أولى بالتبني من البحث عن إيجاد علاقة سببية عقلانية بين الفلسفة والدين، لذلك نجد الكثير من المؤمنين بعقيدة دينية لا يُحبذون الفلسفة ويرفضونها، لأن فيها تفعيلا للعقل النقدي قد يُشككهم بمعتقدهم الديني، لذلك فضّلوا الابتعاد عنها وعن مباحثها لأن فيها ما يمكن أن يهز يقينهم الديني، لذلك ربط كثير منهم بين الفلسفة والزندقة (من تمنطق فقد تزندق) وهذا ما ذهب له (ابن الصلاح الشهرزوري) في كتاب «فتاوى ابن الصلاح» بقوله «الفلسفة أس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عُميت بصيرته عن محاسن الشيريعة المطهرة، المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة... (فعد المنطق) بأنه مدخل شر الشر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه من إباحة الشارع... ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به «، لأن الإيمان بالوحي لا يحتاج إلى دليل عقلي، بقدر ما يحتاج إلى قلب عاشق لله ولحقيقة وجوده بعيدًا عن أشكلة الفلسفة ودروبها البرهانية المعقدة التي لا قدرة للإنسان البسيط معرفة مضانها ومقاصدها.
في الدين هناك قناعة جازمة بالقول بتمامية المعرفة وامتلاك اليقين عند بعض الناس، بينما في الفلسفة قد تجد طرحًا لهذه الفكرة عند بعض الفلاسفة مثل مفهمو «الإنسان الكامل» أو «المتوحد» ولكنها على سبيل الفرض، فقد يختلف الفلاسفة حولها ويفضها كثيرون، بل بعضهم يُشكلون على مفهوم اليقين في الفلسفة وفي الدين.
يعترض الفلاسفة على التعبير الطقوسي في المعتقد الديني، ويعدونه شكلًا من أشكال تغييب العقل الفردي لصالح الحس المشترك أو الجمعي، لذلك حينما يؤكد بعض المفكرين تعارض الفلسفة مع الدين، يُعد أمرًا طبيعيًا نتيجة اختلاف أو تباين المنطلقات بين المبحثين، وهذا لا يعني أننا نصر على عدم التلاقي بينهما، ولكن وجود التلاقي لا يعني التوافق بين المجالين كما ذهب إلى ذلك جل فلاسفة العصور
 الوسطى.
يخلق الدين أساطيره ويكشف لنا عن معجزات الأنبياء والأولياء والصالحين، بينما في الفلسفة الفلسفة تنحسر مساحة الأسطورة، لأنها جهد عقلي غايته الكشف عن قدرة الإنسان في السيطرة على الطبيعة والثقة بأنه قادر على فهم العالم الذي يعيش
 فيه.
في الدين العقل تابع للإيمان ويخدمه، بينما في الفلسفة العقل لا يخدم إلا نفسه، وهو ليس بخدمة المعرفة الإيمانية في أصل تكوينه في الفلسفة اليونانية.
حينما نعتقد بأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق قد تحل المشكل في العلاقة بين الدين والفلسفة على وفق قوله تعالى (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، لذلك أعتقد على وفق هذه الآية لا نحتاج للبحث عن علاقة قسرية بين الدين والفلسفة، لأن الطرق للوصول للحقيقة مختلفة تتعدد بتعدد افهام الناس. الفلسفة تبحث عن الحقيقة وقد يعتقد فيلسوف ما أنه أدركها، ولكنها تبقى مثار شك عند فلاسفة آخرين، لذلك هي بحث عن الحقيقة لا إدعاء
 إمتلاكها
في الفكر الديني سعي لاحتكار الحقيقة، وأن كل نبي فيلسوف، لذلك يمتلك النبي حكمة الفيلسوف وشره الله سبحانه وتعالى، أما ولكن الفيلسوف فهو يمتلك طريقًا واحدًا للوصول لليقين هو طريق البرهان، وهذا ما ذهب إليه فلاسفة العصور الوسطى مسلمين ومسيحيين، بمعنى أن الحكمة تتجلى في في قول الأنبياء الذي ينشده الفلاسفة. يؤكد أبو حيان التوحيدي في كتابه (الامتاع والمؤانسة) أن «الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء».