باسم فرات.. ماركيز والحلم البوليفاري

ثقافة 2024/03/17
...

 د. زينب باسل كامل الداغستاني

يؤمن باسم فرات بأن أدب الرحلات لا يمكن أن يتخلص من المرجعيات الثقافية للكاتب؛ لأن للقراءات سلطتها على نصوصه، وهذه المرجعيات هي خلفيَّات تحرّك اللاوعيَّ عنده؛ بل إن القارئ النهم للمنجز الإبداعيِّ لأدباء أمريكا اللاتينية، حين يزورُ أو يسكن احدى دول أمريكا اللاتينية، ويقرر الكتابة؛ فلا بُد أن تظهرَ هذه الخلفيات بطرق مختلفة، عوالم الرواية اللاتينية، عوالم الواقعية السحرية، والإشارة لأجواء مائة عام من العزلة، المنجز الإبداعي الذي حول مبدعها إلى طاغٍ  مختلف. (ينظر: الحلم البوليفاري، ص5).  

البداية كانت من (الارانديرا الطيبة وجدتُها الشيطانية)، فهل يمكن لرواية ما أن توقع قارئها بالحب، فتصيره إلى عاشقٍ يجافيه النوم؟ يقول فرات: “بداية تعرفي على ماركيز بعد فوزه بجائزة نوبل حين راحت ترجمات رواياته تملأ الأسواق، وما زلتُ أتذكرُ حين عدتُ للبيتِ متأخرًا؛ ففتحت رواية “الارانديرا الطيبة وجدتُها الشيطانية” لقراءة بضع صفحات قبل النوم، فلم أشعر إلاَّ بعد الانتهاء من قراءتها، ربما يكون الأمرُ عاديًا لو كان الوقتُ نهارًا أو بداية ليلٍ لا أنْ يكونَ قُبيل الفجر”. (الحلم البوليفاري، ص121).

فالمقدرة العجيبة التي أوصلت ماركيز لنوبل هي ذاتها التي رافقت باسم فرات الرحالة لسنوات، يقول:”ما شعرتُ به أثناء قراءتي لماركيز، أنني أمام صديق أنيس مثقف يجيد الحكي بحيث لا يُملُّ مما يُخبر به حتى لو كررَ بعض الحوادث، أي ليس كاتبًا يكتب من برج عالٍ، بل حكاهُ فطريٌّ ومثقف في آنٍ واحد، هذه المقدرة العجيبة التي أوصلتهُ لجائزة نوبل؛ هي ذاتها التي رافقتني لسنوات، أعني أجواء السرد الغرائبية، ليس في مرحلة العيش في الإكوادور فقط؛ بل حتى في مرحلة جنوب شرق آسيا، حيث روايته “مائة عام من العزلة” فرضتْ أجواءها، وأنا أخوضُ في كهوف وأحراش وجبال ووديان وقرى وغابات جنوب شرق آسيا”.

(الحلم البوليفاري، ص122).

يتساءلُ فراتُ عن سبب التركيز على صورة غابريل الطفل في وطنه، قائلاً: “في بوغوتا وفي مكتبتها الوطنية، رأيتُ ولأولِ مرةٍ صورًا لغابريل غارسيا ماركيز الطفل، والطبعة الأولى من روايته “مائة عام من العزلة” وأكثر من كتاب له عن الأطفال، وصورًا وحورارات ومقالات عنهُ في صحفٍ ومجلاتٍ قديمة، غابريل الطفل سيتكرر في كلِّ مكان؛ أعني الصورة فالمعارضُ والنشرات الجدارية عنهُ تكادُ لا تخلو من تلك الصورة، لماذا التركيز على صورة نهر كولومبيا الكبير وهو طفلٌ؟ سؤالٌ خطر ببالي؛ وربما خطر ببالِ كثيرينَ، وشخصيًا أرى أنَّ موت الإنسان هو انتهاء دورة حياته فتصبح الطفولة أقربَ لهُ من الشباب.

فنقطةُ النهاية مجاورة تمامًا لنقطة البداية في الدائرة؛ من هنا جاء التركيزُ على صورتين، صورة ماركيز طفلاً وصورتهُ الأخيرة حيثُ حفرَ الزمنُ روايتًهُ على صاحب مائة عام من العزلة”. (الحلم البوليفاري ص121).

فإبداع غابريل العظيم صيّرهُ طاغيًا من نوع مختلف، يقول فرات عن زيارته للمعرض المقام تخليدًا لغابي “إنني رأيتُ احتفاء كبيرًا في أنحاء المدينة، ولا أدري لماذا تذكرتُ أبناء الطُغاة وهم يجبرون الشعوب على وضع صور الطاغية الأب، هنا كان غابريل غارسيا مارقس أو “غابي” مثل ما يُطلق عليه اختصارًا و تحبُبًا. 

طاغيةٌ من نوعٍ مختلفٍ تمامًا، ابداعهُ العظيم زرع المحبة في قلوب شعبه الكولومبي، هو الزعيم الحقيقي للأُمة، لا تلعنُهُ الأحزاب ولا الفئة الباغية حتّى؛ بل الجميع يتشبثُ بأذياله”.(الحلم البوليفاري، ص112).

يقول باسم فرات: “ما رأيته في العاصمة الكولومبية في بوغوتا أنّ ماركيز كان حاضرًا بقوة صوره في كل مكان، معارضُ عنه بعضها على جدران البيوت في الشوارع أُعِدت بشكل بسيط لكن بمحبة عالية، شعرت أنَّ الراحل الكبير يُعدُّ رمزًا للبلاد ومفخرة، بما تعنيه الكلمة وليس مجرد كلام عابر.

ولم استغرب وأنا ما زلتُ في العاصمة أن أعلنت الحكومة عن جائزة كبرى باسمه تُمنح للأدب الروائي المكتوب بالإسبانية”. (الحلم البوليفاري، ص120).

يتذكرُ باسم فرات السيابَ في حديثه عن احتفاء كولومبيا بماركيز واحتفاء العراق بالسياب؛ يقول: كولومبيا ضحية الحروب الداخلية.. أحبتها شعوب الأرض لأنها أنجبت عبقريًا زرع محبتَها في قلوب الملايين من البشر، ليحصد محبة شعبه، طغيانًا تتمناهُ جميع الشعوبُ، ويحلم به كل مبدعٍ حقيقيّ كرّسَ حياتهُ للإبداع. 

كولومبيا هي غابريل وغابريل هو كولومبيا، شعرت بهذا وأنا أرى احتفاء البلاد به؛ تذكرتُ السيابَ الذي لطالما تلّقى سهامَ منتقديه ومعظمهم إن لم يكن جميعهم لم يحققوا في عمر أكبر من عمره الذي عاشه رُبعَ وربما عُشر ما حققهُ حين كان تحت سن الثلاثين من العمر. 

لكن أقسى السهام حين تمَّ ألغاؤهُ واخراجه من الشعر عند أحدهم. حين سمعتها، قلتُ: إنَّ اتهامَ السياب بعدم الثقافة لهو أهونُ من وصمه بأنَّهُ ليس شاعرًا.. هكذا بكلِّ بساطة”. (الحلم البوليفاري، ص112) .

في رحلة باسم فرات لمعانقة ياسوني “رحل ماركيز أثناء رحلتي لمعانقة محمية ياسوني الأهم والأثرى بيئيًا في العالم، كنتُ في نهر وماركيز نهرٌ من أعظم أنهار أمريكا الجنوبية..، توغلي في الغابات جعلني أجهل ما يجري في العالم فأنا في حينها انقطعتُ للطبيعة العذراء، وخرجتُ بحسرة كبيرة ومتعة أكبر لم تُنغصُها لسعاتُ الحشرات..، لكني ما إن وصلتُ للنُّزل حتى علمتُ برحيل نهر كولومبيا”..( الحلم البوليفاري، ص120).

“كنتُ في نهر وماركيزُ نهرٌ من أعظم  أنهار أمريكا الجنوبية، كما يُطلقُ محبو الجواهري أنّهُ النهر الثالث في العراق، دجلةُ والفراتُ والجواهريُّ، هكذا أرى ماركيز”. (الحلم البوليفاري ص 120).

يقارنُ فرات بين الحفاوة المميزة لماركيز، وتلك التي لم يحضَ بها السيابُ وغيره من المبدعينَ في بلدهم؛ ففي بوغوتا ثمة “صورُ ماركيز الكبيرة تعبرُ عن حفاوةٍ مميزةٍ من قبل بلاده يستحقُها الراحل؛ لكن هذه الصور التي ظهرت كخلفيّةٍ لصورٍ التقطتُها أو أُلتُقِطَتْ لي، إضافة إلى الملصقات واللافتات والمعارض.. ما يمكن تسميتهُ بأن كولومبيا حكومةً وشعبًا تقرُّ بأنّها خسرت الكثيرَ برحيل ابنها ومُبدعها وعَلمها ماركيز؛ رغم أنّهُ بلغ من العمر عِتيًّا، مما يعني استحالة أن يقدمَ ولو شيئًا يسيرًا مما قدَّم سابقًا؛ لكنّهُ الاعتراف بالكفاءةِ والموهبة والمبدع الخلاَّق. أقولُ إنّ هذا المشهد الذي كنتُ شاهد عيان على نهايته أجبرني أن أتذكرَ جنازة السياب أحد مؤسسي حركة الشعر الحديث؛ فلم تكن جنازتُه بائسة والمطرُ يزيد المشهدَ أسٌى فقط؛ بل وجود عائلته خارج البيت مطرودينَ من قبل شركة النفط التي كان يعمل فيها بحجة انتهاء إجازاته...، ولا أظنُّ أنّ مبدعين عراقيين عرفوا الحفاوةَ في حياتهم ومماتهم كما عرفها أقرانهم في دول أخرى”. (الحلم البوليفاري ص123). 

يرحلُ فراتُ عن كولومبيا بعد أنْ لمسَ حب الشعب والحكومة معًا لأهم أدبائِها، “ودّعتُ كولمبيا وبقيتْ صور ماركيز الطفل الذي كنت ألمسهُ حيًّا في الحياة الإكوادورية، وبالذات الحياة القروية إن كان في جبال الإنديز، أو أعماق الأمازون، أو قرى الساحل، حيث المحيط االهادئ الذي طالما أغوتني جزرهُ وعوالمها المدهشة وكنتُ أنظرُ من نافذة الطائرة إلى كولومبيا مودِّعًا طبيعتها الساحرة المليئة بمئات الأنواع وبكميات هائلةٍ من الطيور أيضًا. مُرددًا مع نفسي: ارقدْ بسلامٍ أيُّها الساحرُ يا غابي المعلم”.(الحلم البوليفاري، ص124).