ايخنباوم وسرد السكاز

ثقافة 2024/03/20
...

د. نادية هناوي

تناول منظرو الأدب الروس مسائل لها صلة بالشكل أو المبنى لكنهم كانوا يؤصلونها في الأعمّ الأغلب بالأمتين الإغريقية والرومانية على أساس أنهما الأصل الذي إليه ينتمي الأوروبيون خاصة والغرب عامة. ويعد سرد السكاز Skaz واحداً من أمثلة كثيرة تدلل على الكيفية التي بها أهملت النظرية الشكلية دراسة الأصول ولم تبحث في الجذور والأصول. والسكاز طور مبكر من أطوار السرد عرفته مختلف الشعوب، وهو عبارة عن حكايات خرافية شفاهية يغلب عليها الهزل وتمتاز بالقصر وما من سببية في تركيب الجمل أو اختيار الكلمات والتأليف بينها.
وذهب المنظر ايخنباوم إلى أنَّ هذا الشكل السردي خاص بالحكاية الروسية الشعبية وأطلق عليه اسم السكاز، وتتبع توظيفه في أعمال أدباء روس مثل غوغول وريميزوف وبليناك وزوشينكو وارينورغ في حين لم يشر إلى كاتب عُرف بكتابة السكاز وحده لا غير هو شالوم علييخم 1859ــ 1916 ربما لأنه مات في الولايات المتحدة، وكان يكتب قصصه باللهجة اليديشية وهي اللغة العامية ليهود أوروبا الشرقية. وعلى الرغم من التطورات التي حصلت في أساليب الحكي وأنماط القص وطرائق تدوينها، فإنَّ أساليب السرد الشفاهي بقيت حاضرة بسبب رسوخ تاريخها الذي جعل منها تقليداً من تقاليد السرد القديم انتقلت مع انتقال قوالب السرد العربي إلى الأمم المتاخمة ومنها أوروبا التي اتبعت هذه التقاليد في العصور الوسطى ثم طورتها في العصر الحديث.
وبناء على النظرية الشكلية، أهمل ايخنباوم البعد التاريخي للسكاز، فلم يبحث في الجذور ولا حاول رصد الأصول التي منها نبع هذا السرد ومثله كان منظرو حلقة الابوجاز OPOIAZ. وما جعل ايخنباوم يهتم بالسكاز هو تركيزه على مشكلات النوع السردي كالنوفيلا والباروديا. وتناول في مقالين مهمين سرد السكاز في الأدب الروسي. وقفت عليهما الباحثة سيليفيا تروت بشكل مفصل في أطروحتها الموسومة ( ايخنباوم 1918ـ 1929 نظرية الأدب والتغيير الثقافي) وفيها تناولت أعمالاً أخرى لهذا المنظر في مجال نظرية النثر ومفاهيم التاريخ والآداب والترجمة والصحافة. ووقفت تروت عند المقال الأول وهو قصير وكتبه ايخنباوم عام 1918 بعنوان (إيهامية السكاز) وفيه درس النثر الروسي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وعرّف السكاز بأنه نوع من النصوص الخيالية المبنية على حكاية شخص يختلف عن المؤلف ويملك أسلوباً خاصاً. وشرح تركيبته ورأى فيها حضوراً مركزاً للسارد الشفاهي لارتباط صوته بكيانه فيغدو كالممثل، يؤدي دوره بسخرية وتورية وإيحاءات صوتية وإيماءات سيميائية بعكس الكلمة المطبوعة.
وميز ايخنباوم بين اختيار الكلمات وإنشائها داخل القصة الشفاهية التي فيها الحبكة غائبة وجملها تسرد بطريقة غير مركبة بعكس السرد المكتوب الذي تنسج جمله بمنطقية العلاقة بين السبب والنتيجة، وما يتركه ذلك من أثر في الإيهام بالخطاب القصصي. وأكد أنَّ القول السردي storytelling يظهر تعبيرية اللغة بالإيماءة الصوتية- كما يسميها ايخنباوم- فيكون الإيحاء السمعي للمفردة ذا دور في التواصل الحي المباشر شفهياً بعكس التواصل البصري غير المباشر للكلمة المطبوعة التي شبهها ايخنباوم بالشيء الموضوع داخل متحف. وأنَّ إيهامية سرد سكاز تجعل صوت الحروف مختلفاً عن الكلمة المطبوعة في النثر الفني، يقول ايخنباوم: (غالباً ما ننسى أنَّ الكلمة في حد ذاتها ليس لها أي مشترك مع حروفها وأنها نشاط حي ومتحرك بصوت منطوق مضاف إليه إيحاءات.. لكن الأمر ليس كذلك دائماً ففي مجال الكلمة ناقش علماء اللغة الألمان مثل سيفرز وسازان ومنذ بضع سنوات ضرورة دراسة فقه اللغة السمعي بدلاً من المرئي كأمر بالغ الأهمية) وهذا التركيز على القول السردي هو ما سيطوره الباحثون اللاحقون في علم السرد ما بعد الكلاسيكي.
وطبق ايخنباوم كشوفاته حول الأبعاد الشفوية على قصة المعطف (shinel) لغوغول وحلل بنيتها اللغوية، معتبراً السكاز إحدى سمات اللغة الغوغولية لما فيها من أداء لفظي فيه السكاز عنصر أساس كتورية وألعاب كلامية وسرد هزلي يعيد تشكيل السرد بشكل حي وغير واقعي ومنطوق بميلودرامية عاطفية تثير الشفقة.
ثم وقفت الباحثة تروت عند المقال الثاني وكتبه ايخنباوم عام 1925 بعنوان (Leskov i sovremennaia proza ) وفيه اهتم بمجموعة غوغول القصيرة (ايفان فينوغرادوف) وعد سرد السكاز مشكلة أسلوبية، فيها يضحي غوغول بالدلالات من أجل رسم نطقي غروتسكي للشكل، معتبراً السكاز غير قادر على ربط هذا الشكل بالكلام الشفهي الحي للسرد. وأنَّ السكاز يظهر حين تكون الحبكة ضعيفة ويمثل تواصلاً كلامياً شفاهياً ميلودياً.
وبغض النظر عن طبيعة التباين في هذه التصورات التي يضعها ايخنباوم لسرد السكاز، فإنَّ الملاحظ على المنظرين الروس إهمالهم البعد التاريخي للأنواع السردية سواء في اهتمامهم بالشكل أو في توجههم نحو المحتوى بعكس الروائيين الروس الكبار الذين كانوا على دراية بتقاليد السرد العربي القديم وعارفين أشكاله الشعبية. وفي مقدمة هؤلاء تولستوي الذي أظهر إعجابه بحكايات ألف ليلة وليلة واتبع تقاليد السرد العربي القديم بكل احترام. ومثله غوغول وتيتانوف وبوشكين ودستوفسكي وغيرهم. ولأنَّ التقاليد تنتقل وتتطور، ساهم اختراع السينما في أن ينصب الاهتمام على البعد الشفاهي للقول السردي فعاد التركيز على السكاز مجدداً وانفتح المجال مستقبلاً لمزيد من التنظير في مجال الكلمة وصوتها المنطوق.
وفي هذا دليل أكيد على أنَّ التقاليد سبب مهم في تطور الآداب، وأنَّ ما من تطور لأدب ينغلق على محليته، وأنَّ التطورات التي تطرأ على التقاليد لا تغير من رسوخ جذورها ولكنها تسمح باستمرار عملها في الحاضر بابتكار قوانين حديثة, وكل ما يتوقع حصوله من تطورات أدبية في المستقبل إنما يأتي من استعادة الماضي وتحفيز الحاضر على الإفادة منه وتطويره.