محمد هتلر.. بورتريهات الزمن النفسي والبيولوجي

ثقافة 2024/03/20
...

 وارد بدر السالم

ارتبط فن البورتريه بالصورة الفردية في الأغلب الأعم، منذ الحضارات القديمة التي كانت وسائلها الرسْمية والفنية، تلبي بعض أفكارها الواقعية، وما تركه الأسلاف لنا دليل على أن الوجوه تكشف شيئاً غير قليل من خيالات الفن الذي يوصف بأنه بدائي. مع أنّ ما تركه لنا من كنوز فنية كاشفة لأحوال المجتمعات فيها، يُعد ثميناً ومصدراً من مصادر البحوث والدراسات. وسنجد في الوجوه التي بقيت الى هذا العصر؛ نحتاً ورسْماً منذ آلاف السنين؛ ألواناً من ألوان التعبير الإنساني في ظروف حياتية مختلفة. وهذا واضح في المتاحف والمعابد الدينية، التي تشير إلى القديم من الحضارات الإنسانية، لا سيما من الحضارتين الفرعونية والرافدينية. كما تشير الى الفردانية الصورية، التي تجلّت في وجوه الفراعنة والكهنة والملوك
الأسطوريين.
فكرة البورتريه القديم، كان الخيال فيها يلعب دوراً متميزاً في إضفاء شرعية أدبية ونفسية على أصل الصورة المتخيلة، فلم تكن هناك مساعِدات نفسية ساندة لوقوف الشخص أمام الرسام ساعاتٍ أو أياماً. لذلك كان الخيال حاسماً في استدراج صورة الملك والكاهن والأمير لرسمه على الجدران والمعابد او المسلات، لهذا نجد أن الشكل الفردي وصورته الوجهية المباشرة يعزز فكرة الحوار المتخيل بين الفنان والمتلقي. وهذا ما نجده في حواراتنا الداخلية عندما نواجه ملكاً فرعونياً أو كاهناً سومرياً في معبد أو متحف. ونعتقد أن ما نسميه "الأسلوب" هو مقدرة الفنان على صياغة خياله بالقدر الذي يميزه عن غيره من هواة الفن ومحترفيه. وبالتالي فأي حوار نقيمه مع لوحة أو نحت طيني أو رسْمة على جدار كهفي داخلي، إنما هو دافع داخلي يتعاشق مع الدافع المخفي لتلك  المضامين الفنية، التي تمثلها تلك الأعمال. ونرى في هذا بأن البورتريه استعارة واقعية لصياغتها وتجسيدها خيالياً.
هذه الخلفية التاريخية المبسطة شغلت الفنانين في كل مكان، وقوّضت الى حد ما فكرة الرومانسية الخيالية، لكنه تقويض موضعي يكاد يتلاشى مع تطور الفنون وأشكالها المدرسية وروادها في العالم، لذلك فأن هتلر هو وريث تلك العوالم الخلاقة، وحفيد المدرسة الواقعية التي لا يمكن لها أن تتلاشى كلياً، ما دامت الطبيعة حاضرة في كل زاوية من الحياة. ولا نعني بالطبيعة هي ذلك المظهر الفطري الذي نطالعه ويطالعنا في الحياة، انما هو ما يتشكل منها من عناصر ومفردات تتضامن مع المتن الأساسي لواقعية الفطرة الحياتية التي نعيشها، ومنها المظهر الإنساني.
بمطالعة أمامية للبورتريهات البيئية للفنان هتلر لا نشك بأنّ القرية وتفاصيلها الكثيرة، هي المهيمنة الأولى على أفكاره الفنية، حتى بألوانها البيئية المتعاضدة وتقنياتها المتشابهة، وتبدو في بعض الأحيان كإنشاءات لونية، قريبة من الفوتوغراف المباشر، وهذا ما يريد تجسيده الفنان على خلفيات متعددة يضعها من دون النظر الى خلفيات الطبيعة، التي تقف الشخصيات امامها. حتى يُظهرها مستجيبة له بأمزجتها المتعددة في فضاءات الأرياف الكثيرة. وهو ما يحققه بشكل واضح، منسجماً مع البورتريه البيئي الذي يتمثله دائماً، بوصفه ابن البيئة التاريخية (بابل). وعلى هذه الطريقة نجد أنّ ثمة دلالات غير خافية يسوّغها هتلر لذاته الفنية في تطوير ريشته الزيتية والمائية في اختياره لنماذج من القرية، وينيرها بألوان الطيف الشمسي، ويطوّع الزيت لصالح رسمته التي يبذل فيها جهوداً واضحة ليطابقها مع واقعة الواقع. كما فعل كبار الفنانين قبله، بانحيازهم الى ذوات مُختارة من المجتمعات المألوفة، أو من الذات الشخصية، لإقامة حوار داخلي بين اللوحة والمتلقي. نستذكر دافنشي في رجل الطباشير الأحمر وضمادات الأذن لفان كوخ في ذاتياته الشخصية، ومثله بيكاسو الذي قدّم نفسه في بورتريهات شخصية، تخطيطاتٍ ورسوماً زيتية. فمثل هؤلاء الأعلام الفنية، جربوا كل ما يمكن تجريبه في اللوحة، من دون الخضوع الى مدرسة فنية، حتى وإن عدّهم النقاد والباحثون على هذه المدرسة أو تلك لاعتبارات جيلية مرة، وأخرى لمنهجة تركاتهم الإبداعية الفنية. ومن البديهي أن يكون الفنان هتلر قد اطّلع على مثل تلك الرموز الكثيرة وتشبّعت ذائقته في اللون والطبيعة الشخصية المحيطة بأعمالهم، ورصد الجزئيات الخفية في مسارات اللون في انفتاحه وعمقه على تضاريس الوجوه وخلفياتها والفضاءات التي تطوقها إن وُجدت، وبالتالي انتبه الى هذه الجزئيات الرافدة لمشغله الفني: بورتريهات الوجوه المحلية. الطفولة ومستوياتها العمرية.
جماليات الطبيعة في نشوئها الأزلي. حتى توطّنت في فرشاته سلوكية الرسام، الذي يعرف مسلكه لتأكيد الأثر الشخصي في "الصورة" الواقعية التي يرسمها، لذلك توجب عليه أن يخلق معادلات من الخيال لا لمطابقة الواقع معها، بل لترسيخ فكرة الداخل في اللوحة ومدى تأثيره على الوجوه والملامح في زمنية اللوحة الخارجية. فرأينا إجادته في معالجة المستويات الزمنية للوحته، حتى تبدو في بعض الأحيان كأنها صورة فوتوغرافية. فهو لا يرسم. لكن يكوّن من الوجه تداخلاتٍ زمنية من الخيال الواقعي.
يكثّف الوجوه القروية والمدينية الى المضمون الداخلي، يُشغله كبار وصغار السن. دورة حياة يمر من خلالها على القرية بما فيها من بيوت قصبية وماء وأشجار وعنفوان حياتي، تُفصح عنه ألوان الطبيعة. لذلك فهو فنان بيئوي، يمنح اللوحة طاقة متمكنة في خيال الرسم، يثير به المتلقي ويعيد اليه ارشيفاً قديماً، فالمرئي من لوحاته، هو المرئي أيضاً في ذاكرتها، ومن ثم فأن البيئة بشموليتها تُخضع هتلر الى مضامينها في أسطورة القرية وشعبيتها على وجه التخصيص.
ما يُلاحَظ في البورتريه الذي يُحكِم هتلر فيه عناصره السردية الى حد جيد بأن الوجوه الشائخة؛ بتجاعيد الزمن فيها وعليها، ذات خلفية قروية. تتسامى وتتعاضد فيها مكونات القرية من قصب وماء وشجر وأكواخ ونخيل ونواعير، غير أن الطفولة هي وجوه مدينية، حضرية، نَضِرة. ممتلئة بالحيوية والجمال. تتطلع الى أفق أكثر املاً بالرغم من أن خلفياتها تكاد تكون معتمة. لا تمتثل لفطرة الجغرافية والبيئة الشعبية، وهذا أمر مقبول في تقابُل زمنين مختلفين، إذ أن حركة الزمن بينهما واضحة في تجسيد الزمن النفسي وحتى البيولوجي منه. الشيوخ وجوه متغضنة. الشباب أناقة ورفاهية وانطلاقة حسية نحو المستقبل، لذلك فالعبور من زمن الى زمن يتطلب هذا التناقض في تحولات الوجوه بتحولات الوجود الذاتي الى العام، مثلما تتغير خلفيات البورتريهات، من القرية الى سواها في عتمة الزمن التالي. ومثلما نجد تحولات اللون هي أيضاً خاضعة لمعطيات ما خلّفه الزمن السريع.