ذو الفقار يوسف
يصب تركيز وليد منذ خروجه من المنزل إلى أن يعود اليه، بتلافي افتعال المشكلات، التي قد تشغل عائلته وتقلقهم، فأمه هي الأهم بالنسبة اليه في هذه الدنيا، اما بالنسبة لها فهي تلك الجوهرة التي صنعتها، لتتمنى أحيانا وضعه في صندوق زجاجي لشدة خوفها عليه، فوليد الابن الوحيد لها، ولكن هذه الليلة كل شيء اختلف، فعند عودته من العمل، وكعادته ذهب اليها ليضمها ويقبلها، وهي بدورها تستقبله بحنانها الملائكي، «ان استقبالها لي هو اكسير الأمان السرمدي الذي لا أشبع منه»، هذا ما شعر فيه كلما قبل وجنتيها ويديها، ليتفاجأ ولأول مرة بان والدته تمنعه من تقبيلها، لقد انقلب كل كيانه، وتغيرت ملامحه، ولعن اليوم كله، ذهب الى فراشه ورقد هناك كما الاصنام، انعدمت الحياة في عينيه، وصمت مطبقا على تنفسه، ما الذي حصل؟ لماذا حدث ذلك؟ ما الذي فعلته لتكون امي غاضبة بهذا الشكل؟ تساؤلات عديدة هجمت على وليد واحدة تلو الأخرى بلا إجابة، استرجع كل تفاصيل يومه منذ أن فتح عينيه الى هذه اللحظة، اعتصر عينيه عله ينفذ الى التفاصيل الصغيرة في ذاكرته، ولكن هيهات، فالحيرة نالت منه كما التعب، لذا لم يستطع النوم، «هناك جزء مهم مفقود في يومي»، هذا ما قاله وهو يواجه سقف غرفته الذي ملأ بالتساؤلات، لقد تأخر الوقت.. هل ما زالت مستيقظة؟، لم يكن هذا اخر الأسئلة، الارق هو الاخر قد أخذ نصيبه من وليد، حينها شعر بأن هذه الليلة هي اكثر ليالي الشتاء برودة، ولأنها كذلك حاول ان يدفئها بذكرياته، فتارة يعيد في خياله مشهد ممازحته لوالدته، وتهمس شفتيه مكررة «وليدي» تارة أخرى، احس بأمان ليس بغريب لروحه، فهذا كل ما يريده الان، كان الوقت ثقيلا جدا على وليد، كأنه قد بات هذه الليلة في كوكب انعدم به الوقت، الوسادة هي أيضا لم تكن مريحة كما في السابق، اما غطاؤه فيخنقه كلما حاول الهروب من برد هذه الليلة الطويلة، تخيل وليد حينها حياة بلا أم، كيف ستكون؟!، ما الذي يشعر به ذاك الذي فقد والدته؟، كيف له ان يستطيع الاستمرار بالحياة؟، ان يبتسم مجددا، ان يدخل الى منزل كانت والدته فيه، لقد اخافه الامر حد البكاء، مسك وسادته فدفن وجهه بها وهو يحاول كتم صوت بكائه، لا يريد التفكير بهذا الامر مرة أخرى، وكلما حاول طرد هذه الفكرة من رأسه يقذفه الظلام بفكرة أخرى تجعله يئن، وفي آخر الليل،
في زحمة كل تلك الأفكار سمع وليد صوتا
خافتا يناديه: «بحقي كن بخير»، كان هذا ما نطقت به صورة لوالدته علقت على حائط غرفته، وقد خط تحتها «المرحومة ام وليد» فاحتضنها ونام.