ريسان الخزعلي
(1)
صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة الأعمال الشعرية للشاعر العراقي المبدع جليل حيدر، وقد حملت عنواناً كاشفاً "طائر الشاكو ماكو"، وهو عنوان واحدة من مجاميعه الشعرية التي صدرت في المنفى ودلالة الاختيار كامنة في رحلة الطائر/ الشاعر، والسؤال الذي ابتكره ُ السومريون مبكراً "شكو ماكو ؟". وهكذا أجمل أعماله الشعرية تحت خفقة الأجنحة الذاهبة إلى مستقر السؤال الأول، إذ لا يزال السؤال نفسه قائماً في هذه المواجهة الحياتية/ الشعرية التي ارتضاها بوعي منذ نهاية الستينيات المنغمسة في بدايات السبعينيات، وكانت "قصائد الضِد" و"صفير خاص" مجموعتاه الصادرتان قي العراق قبل هجرته الاضطرارية قد حملتا شرارات هذه الوعي، فالضِد والصفير الخاص عتبتان حملتا من الترميز والإيحاء ما يفوق التوضيح والاستطراد.
(2)
صدرت للشاعر أعمال أخرى في المنفى وفي العراق بعد 2003: "شخص بين الشرفة والطريق، حبر لليل.. رجل للمكان، رماد الكاكي، السمندل – قصيدة جيب، الضِد والمكان – المجموعات الأربع، طائر الشاكو ماكو، دائما.. لكن هناك!، كأن، أسد بابل، صفير خاص – منتخبات شعرية، كما تُرجمت بعض قصائده إلى الفرنسية، وترجم مختارات من شعر الحداثة السويدي، وله بعض الأعمال الأخرى.
في الأعمال الشعرية – طائر الشاكو ماكو، أجرى الشاعر صياغات جديدة لمجاميعه الشعرية، إذ لم يدرج كل قصائد بعض المجموعات كما جاءت في طبعتها الأولى، واكتفى للتوضيح بإشارة الاختيار "مِن" والمجاميع هي: "قصائد الضِد، صفير خاص، شخص بين الشرفة والطريق، طائر الشاكو ماكو، دائماَ.. لكن هناك! كما اجترح عناوين جديدة غير العناوين الأولى لبعض المجموعات، وأدرج قصائدها تحت العناوين الجديدة. ومثل هذه الإجراءات ترتبط "بالمراجعة" إذ قد لا يأخذ النشر الأول الصيغة الأكثر وثوقاً في التقديم، كما أنَّ تراكم التجربة يفتح انصاتا مضافاً كاشفاً لتحوّلات أعلى في الرؤية الشعرية الإبداعية.
(3)
ما الذي يسكنني؟
لم يكن ثمّة ما يوقفُ هذا النهر، لا أعرفُ
ما يحدثُ في الرأس
وفي الأهواء
في اللوثة
في التفجيرِ
شيءٌ أسودُ يلجأ للذهن ولا أعرفُ ماذا؟.. "القصيدة السوداء".
إنَّ هذه العيّنة الشعرية، قد تفتح لنا مغاليق شعرية جليل حيدر في أعماله الشعرية، وما هذا "الشيء الأسود" إلّا المفتاح الذهبي الذي نتلمس بدورانه مخفيّات الذهنيّة الطاغية. والشاعر لا يخفي الاعتراف بهذه الذهنيّة (لا أعرفُ ما يحدث في الرأس؟). وأرى أن شعرية حيدر قادمة من الذهني وذاهبة إليه، فهو غير معنٍ بالتسليات الجاهزة، ولا مداهمات الرومانسية التي تلفح البدايات عادةً، فحتى بداياته تخلو منها. إنّهُ صوت خاص في المدار السريالي على طول خط نموّه الشعري (صوته الخاص الآتي من ضفة أخرى غارقة في الضباب، لا يصف العالم وإنما يحوّله ُ إلى رموز شعرية محمّلة بكل طلاسم روحه، ولاشك أنَّ تأثير الكتابة السوريالية واضح على شعر جليل حيدر ومع ذلك فأنّه يظل خارج كلّ مفهوم مدرسي للشعر– فاضل العزاوي). كما أنَّ هذه الطلسمية قد وصفت "بالهذيان السوريالي" على حد تعبير الناقد فاضل ثامر، لأنه يجد في شعره "غوصاً إلى الداخل بمساحة أكبر من سلطة الخارج". في حين يصفه ُ أدونيس بأنّه يُنجز تركيباً فنيّاً متميّزاً، وهي إشارة دالّة على المغايرة أيضاً.
إنَّ الملامح السريالية في شعر جليل حيدر هي التوصيف الألصق بشعريته سواء كان ذلك في شعره الموزون أو في شعر قصيدة النثر، كما في هذين المثالين، وهما للتطبيق وليس للحصر:
المراكبُ راسيةٌ
المراكبُ فارغةٌ بانتظار
المراكبُ هامدةٌ والنهار
معدنٌ مثقلٌ فوقها
المراكبُ تنتظرُ الريح، تسألها
عن خيال السفر
عن هموم، حنين، طريق يؤدي إلى اللاقرار
والمراكبُ فارغةٌ بانتظار المراكب.
****
أيّة قيثارة تركنا في المتحف، وركضنا في براري الأديان؟
تنحني رجولتنا لدأبٍ أخلاقيّ، لكنّهم ينكرون بهجة البيت
المصنوع من ضياء، وأساور، وذكريات، يدُكِ مليئةٌ
بأوراق البستان الداكنة، تُشبهُ بلدي خفيفة تمنحني لمسها
اللامع في الأثر الذي ورثناهُ من لقاء تحت المطر.
السيرةُ أطفأت مصابيحها، كنتُ أنتظرُ عصفاً فجئتُ متأخراً
عن احمرار الساحة حين أوشكنا أن نصل إلى مياه القطيعة.
(4)
الشعر في "الأعمال الشعرية – طائر الشاكو ماكو" عصي على تلقي القارئ العادي، لأنَّ فرادته صادمة، صادمة في البناء والتشكيل اللغوي، صادمة في عدم حسيّة الصورة الشعرية لأنها ذهنيّة التشكّل على الأعم، شعر يُجافي الوضوح والمباشرة السطحية، شعر أعماق وتهجد روحي تلفحهُ منابع الصوفية والسريالية رغم سيادة الثانية، شعر يشيء بالتجربة الباطنية أكثر من غيرها. والتجربة الباطنية هذه صورة ظليّة للتجربة الوجودية في خيباتها وانكساراتها السياسية والحياتية. إنّه شعر الخصوصية والتفرّد بجماليات فنية إبداعية ضمنتها هذه الخصوصية التي يقصر التعبير عنها في مثل هذه الوقفة الاحتفائية الراكضة، لا سيما وإن قراءة أعمال شعرية بهذه السعة، غير قراءة مجموعة مستقلة.
(5)
ورغم عدم الوضوح الذي يواجه التلقّي في شعر الشاعر، إلّا أنّه كان الأقرب إلى الوضوح في مجموعة (دائما.. لكن هناك!) التي أراد فيها أن يصل َ إلى النبع، وقد فعل، كما في هذه القصيدة الاستدراكية من المجموعة ذاتها:
عليَّ أن أحفر كثيراً
لتنبت قصيدتي بين َ أشجار الناس
ولياليهم الحافلة
عليَّ أن أحفر كثيراً
لأصل إلى النبع
حيث الكثير من العطش ينتظر.
إن صدور هذه الأعمال الشعرية للشاعر جليل حيدر يستوجب الاحتفاء، لأنها شجرة عالية
في غابة الشعرية العراقية.