الصفر الأخلاقي في السياسة

آراء 2024/04/17
...

 أ.د عامر حسن فياض

هل ما زلنا نشهد ارتباطا أو تقاربا أم انفصالا وقطيعة بين الأخلاق والسياسة؟ متى تهمش ومتى تستحضر الأخلاق في السياسة تفكيراً  وممارسة؟.
عرفنا عند ارسطو وقبله سقراط وافلاطون أن السياسة لاتنفصل عن الأخلاق، لأن سلطة الحكم عنده توجد لكي تحقق الحياة الفاضلة للمواطنين، لأن الاخلاق عندهم معيار تمييز بين ثنائية الحق والباطل – الخير والشر – الكمال والنقصان – الفضيلة والرذيلة.
وعند سقراط الفضيلة علم والرذيلة جهل، وأن طريق أو اداة تغيير الاخلاق إلى علم هو العقل، لأن غاية العلم اكتساب الفضائل والتحلي بمكارم الاخلاق.
ويذهب افلاطون إلى اعتماد العقل ايضا على أساس أن النفس البشرية ثلاثة انواع (الشهوانية – الغضبية والعاقلة) والنفس أو القوة العاقلة، هي التي ينبغي أن تقود القوتين الشهوانية والغضبية، ويحصل ذلك عندما يكون الحكم للعقلاء، أي أما أن يكون الحاكم فيلسوفا أو أن يكون الفيلسوف حاكماً لكي تتحقق العدالة.
وفي العصور الوسطى ساد مفهوم السعادة الآخروية، وليس الأرضية تعبيراً عن الأخلاق الدينية، الامر الذي لم يفسح المجال للتمييز ما بين الأخلاق والسياسة.
وفي العصور الحديثة حلت سلطة العلم، بدلاً من سلطة الكنيسة لتصبح السياسة عند ميكيافيللي عبارة عن لعبة تحتاج إلى كل انواع الحيل، وأن الدولة الوضعية، التي أرادها أما ان تقوم على أسس أخلاقية أو لا تقوم وهو مع الطريق الثاني. ثم ذهب توماس هوبز إلى أن الاخلاق تكمن فقط في احترام بنود العقد بين الحاكم والمحكومين. وراح (عمانوئيل كانت) إلى (اخلاق الواجب)، وذهب (جيري بنتام) إلى (الاخلاق النفعية) وهكذا القرن العشرين انشغل بنقد الاخلاق والتركيز على مسبباتها بينما عرف القرن الواحد والعشرين بقرن العودة لتأسيس اخلاق جديدة تفرض سلطتها حتى على العلم ولكن هيهات!  نقول هيهات لأن مفردة الاخلاق تثير الكثير من التساؤلات فمفردات ومصطلحات مثل الاصلاح السياسي والتنمية المستدامة والاستقلال والسيادة وحقوق الانسان والديمقراطية الحقة وحوار الحضارات وسلطة المعرفة والعدالة الاجتماعية والمصالحة الوطنية وحرية المعتقد وغيرها كثير تؤشر التمفصل الايجابي بين الاخلاق والسياسة، بينما مفردات ومصطلحات مثل التفاهة السياسية والخديعة السياسية والحماقة السياسية والفوضى السياسية والصهينة السياسية والفساد السياسي والعدوان والميكيافيلية والعسكرة وتصادم الحضارات والطغيان والاستبداد ونهاية الايديولوجيا وأمركة العالم، وجهل خصوصيات الآخر والدونية الحضارية والتفوق العرقي تؤشر الانفصال والقطيعة بين الاخلاق والسياسة ومن ثم تشكل الصفر الاخلاقي في علم السياسة اي نفاد المخزون الاخلاقي في السلوك الفردي والجماعي في زمن العولمة الرأسمالية المتوحشة، التي ارادت من السياسة فكراً وممارسة أن تعمل من أجل عالم تعيش وحداته الدولتية (الدول وانظمتها)، اما نظام العبث والفوضى أو نظام التفاهة والحماقة.  لقد اصبحت العدمية الاخلاقية اللوثة الكبرى في عالم السياسة فالقوي من الغرب الرأسمالي بالذات اخذ يتعامل وامامه اما عدو له أو عميل له بينما كان على وفق نظرة نصف أو ربع اخلاقية يتعامل وامامه اما عدو أو صديق. ولقد أصبحت الهندسة اللاخلاقية لعالمنا المحكوم من قبل الاشرار وليس الاخيار، سياسات وبرامج واجراءات وخطط لإعادة هندسة كل دولة في عالمنا المعاصر، لتكون محكومة من قبل المتعطشين للدم والرذيلة والمال.  اذا كان من السهل جداً اتهام الذين كانوا يقدمون ابناءهم قرابين للالهة بالهمجية والتوحش فمن الصعب اقناعهم بان القاء قنبلة ذرية على مدينة وتدميرها بمن فيها وما فيها يدخل ضمن شرعية استعمال العنف من اجل درء عنف اشد أو تخفيفه، كما تريد ان تخدعنا به الادارة الامريكية كتبرير احمق ومضحك لوقوفها مع الكيان الصهيوني.
وعن العلاقة بين الحرب والاخلاق فقد لا نعرف دائما متى ينتهي القتل باسم الانسانية، ومتى يبدأ باسم المصالح؟ فالحرب سيئة بالنسبي والمطلق كما يؤكد ذلك (امبرتوايكو) فلا رابح في الحرب الحديثة، فهي مضادة للبيئة والانسان رغم (ذكائها) فعلى الانسانية ان تتخلص من تراثها الدامي لترسي قواعد جديدة من أجل ادارة طاقات العنف  داخلها بما في ذلك امكانية تحريم الحرب واعتبارها (تابو) كما اقترح ذلك الكاتب (البيرتومورافيا). ان العقلنة لاتقصي المختلف باعتباره خارجا عن النمط العقائدي، بل تستوعبه ضمن ممكنات الوجود الاجتماعي الذي يجب ان يتسع للجميع ضمن ثوابت الانسانية وحدها. فالوحدة ليست انصهار الواحد في ذاته بل هي طريقة في ارتباطه مع الآخر. فالآخر هو من يحددنا كما يقول (ايكو) فبدونه سنصاب بالجنون أو الهوس، لذلك فكل وحدة انما تقوم على المتعدد في الوجود فلا شي مثير للحزن اكثر من شعور امة بوحدتها بتعبير (ليفي شتراوس). بعبارة أدق أن وجود البعد الأخلاقي مرتبط بظهور الآخر. فالأنا لا تعرف الأنا الا بوجود الآخر على حد تعبير (سارتر) والغاية في كل قاعدة اخلاقية هي تنظيم العلاقات بين الافراد، بما فيها العلاقة مع آخر هو من يفرض هذه القاعدة. فقد تختلف اشكال القيم لكن مضامينها ستظل واحدة، ان الخير خير والشر شر في مشارق الأرض ومغاربها. لذلك لا يجب ان تثنينا بشاعة عولمة الحرب عن تبني منجزات الحضارات في مجالات الانساني، ومنها الحقوق والديمقراطية ورفض القتل باسم الدين والعرق والهوية الثقافية، فلا شي يمنعنا من استنبات هذه المبادئ في تربيتنا الثقافية وفق خصوصياتنا كما تأتي من اللغة والتاريخ والثقافة، لا كما يمكن اسقاطها خارجها، فلا خصوصية في العدل والمساواة والحرية والديمقراطية الا ما يتعلق بخصوصية ما يمكن ان يخدم بافضل الطرق مصالح الناس وكرامتهم. فنحن جزء من الانسانية، وهذا ما يجعلنا نهتز طربا ونحن نستمتع بموسيقى لانعرف كلماتها.  
وهذا يعني عدم الخلط بين الحضارة التي انتجت هذه القيم وبين مايرتكبه المنتمون اليها من جرائم خارج حدودهم، فلن يقود هذا الخلط في نهاية الامر سوى إلى تبرير وجود طغاة يحكمون شعوبهم بعبث تسلطي لانظير له في التاريخ،  فبأسم الخصوصية والتمييز يبررون الاستبداد والتخلف والقطيعة مع الآخر والانكفاء على الذات خارج مجريات تاريخ يصنع في غيابنا وغيبوبتنا وخارج قدرتنا على مجريات ايقاعه. إن واجب العاقل هو في المقام الاول انتقاده لحالة وحال اناه قبل انتقاد الآخر. وعلى سبيل المثال قدم نعوم تشومسكي العالم اللساني الشهير حالة مثقف عاقل نادر الوجود في التاريخ. فقد وقف في وجه الحماقة الامريكية بكل قوة وفضح اساليب حكومته في التدخل في شؤون الافراد والشعوب والدول، ولم تمنعه يهوديته من الوقوف ضد الكيان الصهيوني دفاعاً عن حق الشعب الفلسطيني في استقلاله وبناء دولته.  فالعاقل فاعل اخلاقي لايتقيد بحالات انحياز زائل لهذا الموقف أو ذلك يحل محل القيم النبيلة التي انتجتها الممارسة الانسانية الممتدة عميقاً في التاريخ. فقد مات سقراط دفاعاً عن حق الانسان في التفكير الحر، ورفض الفرار من سجنه لكي لا يشمت به اعداءه أو يشككون في مبادئه. وهكذا فان مايفصل السياسي غير العاقل عن السياسي العاقل هو الفاصل بين الولاء وبين الحقيقة. فالولاء عند (اميرثوايكو) مقولة اخلاقية، اما الحقيقة فمن طبيعة نظرية. الاولى للسياسي فهو يتحرك ضمن تراتبية السلطة أو تراتبية الحزب اما الثانية فمن اختصاص العاقل المثقف فهو لايهتم سوى بالقيم التي تحمي الانسان من الظلم والانتقاص من حريته وكرامته، ولا سبيل إلى الخلط بين ما يأتي من الولاء وما تقود اليه الحقيقة انه الفاصل بين اكراهات السياسة وامتيازات الثقافة. فلا شيء يبرر قتل آلاف الضحايا الابرياء انتقاما من امريكا الظالمة كما حدث ذلك في نيويورك ومدريد مع بداية القرن 21.
ولا خير من ادانة غزو صدام للكويت لانه غزو عبثي ولكن الضير في ان تتم مباركة قتل الشعب العراقي كأمر مأساوي والحقيقة تدفع العاقل إلى ضرورة اسقاط نظام فاشي دون مباركة الغزو الامريكي للعراق.  ان مضامين المقالة تبين ان قوة الاخلاق تقاس بسلوك العقلاء لابما يفعله الحمقى الذين هم، في النهاية، من مخلوقات الله الحيوانية المتوحشة صناع الصفر الاخلاقي في عالمنا المعاصر.