عز الدين بوركة
للصورة سحرها وسلطتها الخاصة، ويا لها من صدفة مدهشة أن نجد الصورة image والسحر magie يتكونان من الأحرف نفسها، كأنهما من الجذر اللغوي عينه.. يمارسان المكر والغواية عينهما.
فقد حوّلت الصورة العالم عبر سحرها إلى عالم صغير، يمكن التنقل بين أركانه بكبسة زر أو نقرة فأرة.
لا تقتصر الصورة على المجال الآلي (الفوتوغرافي / السينمائي...) الملموس فحسب، بل تتجاوزه إلى المتخيل (الشعري) والذهني غير الملموس. منذ بدايات التفكير الفلسفي، صار للصورة موطئ قدم في الحقل الفلسفي، فخُصصت لها كتب عدة وتناولها فلاسفة كثر، بل تكاد تكون من أقدم المواضيع طرحا فلسفيا، وإن تم تبخيسها وتهميشها في فترات عدة، بعدّها مدعاة الإغواء والخداع والتشويه والتزييف، إذ عمد أفلاطون، مثالا، إلى تبخيسها بوصفها تشويها لعالم المثل، لتعلقها الوثيق بالظلال، التي تأسر "سُكان الكهف" ولا تجعلهم ينظرون إلى مصدر الضوء، معتبرا إياها "مسخا" أو ما اصطلح عليه بـ"السيمولاكر"، الصورة المشوهة للأصل.
سيمولاكر، ظِلُّ عالم المــُثـُل، أو الشبح الذي لا نستطيع لمسه، لأنه غير مادي (إنه المرئي غير المرئي) أو بمعنًى أدقّ، فهو مُشوه، ومجرد صورة (أو ظل) على جدار الكهف.. فالكهف هنا يكاد يصير شبيها بقاعة السينما، حيث تعمُّ الظلمة, وتأتي الصورة من حيث لا نحتسب.
تأتي من خلف أعيننا، من حيث لا نراها، إنها شيء سحري يصعب إدراك مصدره، إلا أنه يشدنا إليه، يجعلنا مندهشين، غير قادرين على الحراك.
اتّخذ أفلاطون الكهف ليعبّر عن هشاشة السيمولاكر (الصورة المشوهة للواقع) القادم من الأعلى، من خلف رؤوس قاطنيه (العالم الدنيوي)، ولكي نتحَرّر ينبغي علينا معرفة مصدر الضوء؛ أن نتجاوز الصورة وننعتق من أغلالها ونبلغ الأصل، حيث "الصورة الحقيقية" غير المشوهة.
وُلدت الصورة في كهف [بلومبو بأفريقيا]، وعادت إليه [السينما، التلفزيون، الهاتف...]. لم تتحرر الصورة إذن، من جدران الكهف حتى عاودت الإقامة عليها وفيها.. حتى أن أولى الصور التشكيلية خرجت من صلب جدار، من ظل محبوب رسمته حبيبته قبل أن يهاجر، وما كان من الأب إلا أن يُبقي على ذكرى حبيب ابنته خالدة في منحوتة مستخلصة من أثر الظلال المرسومة على الحائط.. ويا لها من فتنة ويا له من سحر، أن ينبعث فن التصوير من حالة عشق وغواية صورة لم تشأ الفتاة أن تفارقها.
تأسرنا الصورة إذن، وتشدنا إليها، لما لها من سلطة، وتُبْعِدُنا بقوة عن العالم الحقيقي، باعتبارها تشويها له.
بينما هبط أرسطو بالصورة من عالم المثل (الجوهر) لدى أفلاطون، إلى عالم الواقع (أو المظهر)، وحوّل القصائد والدراما إلى أنواع من الموضوعات ذاتِ أشكال وصور خاصة، يمكن معرفتها بواسطة تلك الذات الباحثة والساعية وراء المعرفة.
لقد جعلها محاكاة. وقد سار المذهب المسيحي، بعد زمن من تحريم الصورة وتبني الرؤية الأفلاطونية، على منوال أرسطو، فأعلى أيضا من شأن الصور المقدسة الثابتة، في مواجهة الواقع التاريخي المتغير، مادامت المنزلة السامية للإنسان على الأرض يمكن تبريرها في ضوء القول، إنه قد صُنع "على صورة الله".
والأكثر أهمية أن تجسيد السيد المسيح، تم تفسيره بأنه تأكيد واحتفال بعملية "صناعة الصورة" في ذاتها، وذلك لأن السيد المسيح كان "الكلمة"، "في البدء كانت الكلمة"، لكنه أصبح جسدا: صورة مرئية وملموسة وخالدة.
ومن جهة نظر مغايرة، يذهب بودريار إلى طريق مضادة للطريق التي اختطها أفلاطون وأشار إليها في ما يخُصُّ الصورة، بوصفها ظلا للواقع (سيمولاكر)، ولهذا فبودريار يرى "أنها الواقع ذاته". هكذا يفصح بودريار عن العلاقة بين الواقع والنسخة المنقولة عنه، بين الأصلي والزائف.
وخلال ذلك قام بطرح تحديثات وأسئلة متشككة في البديهيات الأولية التي طالما اعتنقها العقل الغربي، والتي منها أن هناك أصلا (eidos) متميزا من النسخة أو الصورة، فقال بودريار، إن كل شيء هو نسخة منقولة عن نسخة أخرى، وإننا موجودون في عالم من المحاكاة والنسخ غير ذات الأصل المحدد simulation and simulacra.
تنحدر الصورة في أصلها اللاتيني، من معنى "القناع الشمعي الذي يوضع على وجوه الموتى، والذي يضعه القاضي في الجنازة".
كما أن التمثال idole (الصنم) في اللغة اليونانية، هو رديف طيف الموتى قبل أن يصبح حاملا لمعنى الصورة، والصورة الشخصية.
أما الإشكالات الكبرى التي تطرحها الصورة - سواء كانت يدوية أو تمّ إنتاجها آليا، ثابتة أو متحركة - فيعرضها جاك أومون J. Aumont في مؤلف "الصورة" على طول ست مقاربات متتالية: الصورة باعتبارها ظاهرة الإدراك الحسي (فيزيولويجيا الإدراك)، لكن أيضا هي موضوع النظر من قبل متفرج spectateur (علم النفس)؛ تؤسس لعلاقة مع المتفرج عبر تدخل وسيط médium أو جهاز خاص (سوسيولوجيا، علم الوسائط)؛ كما يمكن أن تكون مستعملة لأغراض عديدة ولها قيم متغيّرة (الأنثروبولوجيا)؛ وأما قيمتها الاجتماعية فعرفت مراحل كبرى من التحول (التاريخ)؛ وفي النهاية، لها قوى خالصة، التي تميزها عن اللغة ومظاهر رمزية إنسانية أخرى (علم الجماليات).
ويسجل رولان بارت في مقاله الموسوم بـ"بلاغة الصورة"، بحسب علم الاشتقاق القديم، فإن كلمة صورة image مرتبطة بالجذر محاكاة Imitari.
ها نحن في قلب أهم مشكل قد طرح على سيميولوجيا الصور: التمثيل التناظري (النسخة)؛ هل هو قادر على إنتاج أنظمة حقيقية للعلامات وليس فقط مجرد اِلْتِحامات بسيطة للرموز؟
سنن تناظرية، وليس أبدا رقميا. هل هو محفوظ؟
نعلم أن اللسانيين يجعلون خارج اللغة كل تواصل بالتناظر، من "لغة النحل" إلى "لغة الحركات"، في حين أن هذه الاتصالات ليست واضحة من الوجهين، أي مؤسسة نهاية على توليفة لوحدات رقمية. كما هو عليه حال الفونيمات les phonèmes.
لا يتوقف إدراك الصورة عند اللسانيين والسيميائيين وحدهم، بل نجد الأمر مطروحا بشدة في الفلسفة، وعند الفلاسفة. فقد جعل هؤلاء للفكرة مادة وصورة. وجعلوا مادة الفكر هي حدوده التي يتألف منها، وصورته هي تلك العلاقات التي توجد بين تلك الحدود.
للصورة إذن، تاريخ طويل من التحولات والتأثيرات، غير أنها ظلت مشحونة طوال تاريخها بحمولة مفارقة وسحرية، تعمل على إثارة الفتنة والغواية تارة، وتحويل الواقع وتشويهه تارة أخرى، أو تعمل عمل المعبود (الصنم) وتخليده.. إنها بهذا المعنى إحالة دائمة على شيء ما، محسوسا كان أم مجردا.. تحقيق لخفيّ ومحاكاة لمرئيّ.. تحتمل روحا ثقيلا وبدنا سيمولاكريا، وتتخذ لنفسها أشكالا وهيئات متعددة ومتنوعة... لا لون ثابتا لها ولا ظل، إنها هي الظل والضوء معا.
وُلدت الصورة في كهف