ياسين طه حافظ
حين يكون مشروع الكتابة استجابة لإلحاح فكري أو روحي، حين يكون إرضاء أو اقناعاً للذات، لا نحتاج لأن نفكر في ايجاد موضوع للكتابة. الموضوع قائم وإن كان غائمَ التفاصيل. هو قد يدفعك لعمل أو لسفر أو لحضور مجالس ترى لما يدور فيها مساساً به. وقد لا تكتفي فتقرأ ما سبق إن كتب الاخرون عنه أو مما هو قريب منه. تريد أن ترتوي, وتريد أن تجهر بما يقلقك أو يهمك. لكننا، في مهنتنا الصحفية، ولتكن مهنة أخرى، نعلم بأننا ملزمون بكتابة عمود أو زاوية أو مقال ترى الصحيفة فيه أهمية لقرائها أو للمؤسسة التي تصدر عنها.
هنا نحتاج الى المام بقدر ما في موضوعه، لتتولى التعبير عما نريد ذكره أو عرضه أو التنبيه اليه. هنا براعة الكاتب في ذكاء التفاصيل التي تنعش السطور.
المقالة عادة للقارئ العام، ولكي تظل محترمة يجب ألا تخسر احترامها للمعنيّ، أو الذي يقارب التخصص.
مستوى من العلمية مطلوب. لا تعتمد الصحف على كتابها الاعتياديين وتعتمد اساتذة وعلماء للكتابة فيما جدّ أو أثار من أحداث وأخبار. عدا ذلك، نحن نكتب ما "نود" أو "نختار" أو ما نريد اثارته: لكن، لماذا اخترنا هذا الموضوع لا ذاك؟
ثم لماذا كتبته بهذه الطريقة وتناولته من هذه الزاوية؟ وما أن تُرك لي الاختيار، ما إن غاب التكليف، حتى حضر غير المتوقع!
هذه الحقيقة تدفع بنا قليلاً للاعتراف، أن في داخلنا الكثير مما لم نعبر عنه وأني أضع الان في الكتابة ما "يهمني" وما "ينتمي" اليّ. فانا أتحدث، لدرجة ما، عن بعض مما في نفسي. تلمّسْ الكتابة جيداً وتراه! ستراه وأنا أكتب عن شيء يبدو بعيداً. هذه حال حاضرة دائماً في الكتابة.
وهنا بدء الصلات بالأدب، ما نزال حريصين كل الحرص على تنفيذ الطلب، لكن مع تحقيق الطلب تحقيق الرغبة ومن خلال تنافذ سري.. في كتابة أي موضوع تسمع وترى أو تقرأ نداءات، شارات تأخذ القارئ وتأخذنا الى ما أضعنا، مثل لطف ترحيب، مثل وعود بعون ونستمر حتى نصل. نهاية الموضوع نهاية لاعجنا أيضاً.
لنرتقِ قليلاً وليكن حديثنا ثقافياً مباشرا ونقول: إن الأدب ليس محصوراً في حدود اللغة القصدية الساعية للتعبير أو الإفصاح: هو يمتلك دائماً نوعاً من الهوية، وجوداً خاصاً بين المعنى والوجود الإنسانيين وبين المدى الكوني. بين الذهني والمادي. بين المرئي والرؤيوي.
وإسقاط أي طرف يعني اسقاط الحياة الإنسانية. وما دمنا نعيش نحن نتجه الى شيء نريد.
وفي اتجاهنا له نمر بشتى موضوعات الحياة واشيائها، مفردات أساسية وشوائب. وعبر كل ما نرى لنواصل المسعى، حتى نجد أنفسنا أيضاً وحتى نظل "احياء" وفي أثناء ذلك تتقدم لنا، نتلقى إشارات أو معان منبثقة مما نرى, ومما افتقدنا ونلامس بعض ما نتمنى مثلما نتحاشى الكثير مما نكره أو لا نريده في الحياة.
اليس هذا ما نراه أو نحسه أو تتضح صوره, ونحن نقرأ أو نكتب صفحة من الأدب؟
ونحس دائما بتلك الصلة من الانتماء؟
كل ابداع له صلة بمبدعه. ولا كتابة بعيدة حدّ الانقطاع عن الذات "الكاتبة" وحياتها وتاريخها، حتى إذا كانت الكتابة عن شأن عام! ما كنا نطيل الكلام في هذه الموضوعه لو تذكرنا أن الكلمة في الكتابة ليست لذاتها, وأنها ليست محايدة. هي في الكتابة لا تظل عامة, بل تصبح خاصةً بالكاتب وهو يكتب وخاصةً بالقارئ وهو يقرؤها.
وفي الحالين هي "علامة" أو "اشارة" تومئ ببعض من مخزونات حياة الكاتب, وبعض من مخزونات حياة القارئ، أفكاراً وأحداثاً وتوقدات وصول أو معان يتعطش لأن يرى تعبيراً أكثر عنها.
عديد الانتماءات الخاصة من العام يعني اتساع الذات الفردية في حضورها الإنساني وتماسها بالحياة. وهذا بقليل من اللطف والسماح، ينقلنا الى الدرس الوطني ومنه إلى الإنساني، فهذه محلتنا وهذه مدينتنا وهذا وطننا وهذا عالمنا.. توسعات تبدأ من اصغر المفردات، من هذا كتابي وهذا بيتنا أو هذه غرفتنا. صار في العوالم شيء منا وبعض فيها لنا. مهمة الأدب أكبر مما حددوها له!
هنا خرجت المسألة من الايماء إلى ألتماس, وهذا هو العمل العظيم للأدب. فما عادت الكلمات علامات, ولا سلسلة محطات صغيرة لكنها عديد لقاءات وانتماءات واكتسابات فهم وقربى. إذاً اختيار الموضوع لا لطرافته أو بسبب واجب التعرض له, ولكن لإثارة ما وراء عالمه وباتجاه القصد منه.
كتبت كثيرا عن احترام الكلمة والاهتمام الخاص باختيار اللفظة، شان أجدادنا القدامى. لكننا نختلف معهم في هذا الشأن.
ولاختلافنا عنهم أساسٌ وسبب. نحن نتحرك بمستويات اللغة "الواحدة" كلها.
المفردة عندنا بمدى فعلها ودقتها, وبعد اشارتها وكم تكشف من اللا مرئي وكم تقترب مما نهجس أو نريد الوصول اليه.
علوم اللغة اليوم غير علوم اللغة أمس. ناس اليوم قاموا بعمل عظيم فصرنا بفضل دراساتهم وكشوفاتهم نقرأ قراءة افضل وأوسع وبمدى من الفهم والإدراك أوسع لكشف "منطقة القراءة". فكل موضوع يعطي من الرؤية والإيحاء قدر أهميته واكتنازه. اختيار الموضوع لا لجماله حسب, ولكن لغناه أيضا!