الإجابة الفلسفيّة في الإنتاج الروائي

ثقافة 2024/05/06
...

  علي لفتة سعيد

يبدو أن الحديث عن ثنائية {الفكرة والحكاية} ليس أمراهيناً ولا بالشيء اليسير الممكن سهولة؛ لأن هناك مَن يعتقد أن الأمر برمته متداخل مع بعضه، ولا فرق بين  الاثنين في صناعة النصّ السردي وإنتاجه. فلا حكاية بلا فكرة، ولا فكرة من غيرِ حكايةٍ، وإن عملية التفريق بين المفهومين لا يمكن أن تستقيمَ، فما بين الاثنين عَلاقة وشيجة تصل إلى حد التشبيه بالزواج الكاثوليكي، ولا فكاك منه. فالأمر ببساطة هو أن تجد الفكرة أولا ثمّ تكتب، باعتبار أن الفكرة هيَ أس العمل الفني وأساسه العميق، وذلك ما ذكره علي سبيل المثال لا الحصر الروائي المصري إبراهيم أمين مؤمن في مقال له نشره على موقع {الجزيرة نت}.

إذ يقول فيه: "عند كتابة رواية لا بُدّ من أوّلاً إيجاد الفكرة". وهُنا كلمة "لا بُدّ"، هي البدء الأوّل، وإن كان يقول في الجملة التي ما بعدها: "وهذا الأمر وإن ْ كان عسيراً، فضلاً عن أنّه عصبُ الرّواية الرئيس"؛ لكنْ قد يبدو أنّ هناكَ اتّفاقاً لما سبقَ في السّياق العام، بيدَ أنّه ليس كذلك في السياق الإنتاجي. فالكثير من الرّوايات لا تحمل فكرةً، أو أفكاراً لها امتياز المكوث القارّ الأوّل، أو الاستنشاق الأوّل الذي يسبق عملية الركض في مضمار الإنتاج السّردي الروائي.
فالرّواية قبل منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتّى مطلع الألفية الثانية، كانت الحكاية فيها تُسيطر على الإنتاج ولها السبقُ في ذلك، ومن ثُمّ تأتي الفكرةُ. بالرغم من أنّ القول التأكيدي، هو أنّ الفكرة لا تُلغي الحكاية ولا تنفي وجودها القارّ، بل هي تتقدّم عليها في المنظومة الفكريّة للمنتج الروائي. وهو يقف عند مرتفعٍ رؤيوي جديد يقول: إنّ كلّ فكرةٍ بحاجةٍ إلى حكايةٍ، ولكن ليست كلّ حكايةٍ فيها فكرة.
إن الفهم العام هو تحديد الأهداف المقبلة للعمل التدويني والكتابي، وهو يُشبه إلى حدّ ما، توضيح فكرة فيلمٍ سينمائي يُقدَّم إلى جهةٍ إنتاجية ما، حين يتمُّ عنونة التقرير المُقدّم بـ “فكرة الفيلم”،  وهي فكرة تتحدّث عن حكاية الفيلم. وهو ما يحصل مع الرواية أيضاً، فالكاتب يستحضر الفكرة التي يُناقشها، ومن ثُمّ يبحث عن حكايةٍ لتدوينها، وتوسيع ثيماتها الفنيّة على الشخصيات والأحداث والحوارات والأسلوب. فالفكرة تُحدّد حتّى الأُسلوب الذي سيتحكّم في الإنتاج الروائي، خاصةً وأنّ الرّواية ليست كما يُذكرُ دوما من أنها "هي سردٌ لقصصٍ لأشخاصٍ واقعيين وأحداثٍ حقيقيةٍ من خلال الأساليب الدّراميّة للرواية". فهذا أمرٌ طبيعي، ولكنّ الحدث الجديد والانتقالة الجديدة في عالم الإنتاج الرّوائي، هي عملية سرد الأحداث لا تعني سوى أن يكون العمل آليّاً، لا يمنح سوى عملية نقل الواقع وتفعيل الصراع والاهتمام بالتصاعد الدّرامي، وهو أمرٌ لا بُدَّ من توافره؛ لكنّ هذا التوافر قد لا يُعدُّ فكرةً عُليا، بل هو نقلٌ وتسطيرٌ كما في الرّوايات الّتي قرأناها، والّتي نَقلت لنا الواقع بسحريةٍ وروحٍ توصيفيةٍ جبّارةٍ وخارقةٍ، كما في روايات ماركيز، والأوضح روايات نجيب محفوظ، الّتي نقلت لنا الواقع المصري بكلّ حاراته، فكانت الفكرة تتبع الحكاية، التي تأخذ الحيّز الأكبر من الفعل التدويني السردي، والاهتمام الأعلى للمنتج الروائي.
إن المُتعارف عليه، هو وجود عَلاقةٍ ببن الفكرة والأُسلوب، وهذا صحيحٌ جدّاً، كونها تُسهمُ بتحديد أُسلوب الروي، مثلما تعني وجهة النظر. بمعنى أنّ الفكرة تتواجد في كلّ مفصلٍ من مفاصل السرد الروائيّ، وهذا ما أكّدهُ الدكتور فائق مصطفى  في كتابه، "في النقد الأدبي الحديث"، من أنّ وجود الفكرة تتواجد "في نسيج الرواية كلّه ولا تُفهم إلّا بعد الانتهاء من قراءة العمل الروائي كُلّه".
ولكنْ الأمر هنا يكون عموميّاً، ويُبقي الحكاية هي صاحبة الوجود الأكبر، وهو ما يجعلها - أي الرواية - عبارة عن “حدّوتة”، أو كما نُطلقُ عليه في اللّهحة العاميّة العراقيّة “سالفة”، تبهرنا في اللُغة، وتدهشنا في الروي، وتجذبنا في الصراع، كونها ناقلةً للواقع. ولذا فإنّ الانتقالة التي أحدثتها الرّواية الحديثة، هي أنّها أخذت الفكرة من روح الفلسفة، أكثر ممّا تأخذها من روح النقل الواقعي.
كون المتلقّي لم يعُدْ يرغب بـ “سماع” حكايةٍ مكتوبةٍ. قد تكون مرغوبةً من قبل المتلقّي لا القارئ، وقد أوضحنا مرّاتٍ عديدةً، التفريق بين الاثنين من أنّ القارئ هو من يبحث عن عناصر الدهشة، والحكاية المُستخلصة من واقعه، يقرأ ليرتاحَ، ويكون رأسه على الوسادة، في حين أنّ  المتلقّي أو الناقد، هو الذي يفكّر مع المُنتج، ويناقش أفكار النصّ، حتّى أَنّه يتدخّل كثيراً من خلال طرح الأسئلةـ التي قد يجدها مرهونةً بالعمل بكلّياته.
ولهذا فإنّ الفكرةَ تُحضّرُ أوّلًا، ثُمّ تتبعها الحكاية. ودائما ما تكون الفكرة في المرحلة الشفاهية مرهونةً بالسؤال... فعلى الصعيد الشخصي كانت روايتي “مُواسمُ الاسطرلابِ” قد بدأت بسؤالٍ مثير وتشعّب هذا السؤال إلى عدّة أسئلةٍ نحوَ: “مَنْ يصنع الدكتاتور؟ وكيف يكون الحاكم دكتاتوراً؟ ولماذا أصلاً يتحوّل إلى هذه الصفة، وهو يقود مجتمعاً؟”.
أسئلةٌ كثيرةٌ كانت تنتابني، لذا كانت الفكرة هي مَنْ وضعَ السؤال، ومن ثُمّ وضع الثيمة على الإجابة عن السؤال، ثم البحث عن حكايةٍ تكون موائمةً مع الفكرة، التي أردتها ألّا تكونَ مباشرةً، من خلال وضع حكايةٍ عاديةٍ عن رئيسٍ يبطش بشعبه، فتنزلق الإجابة، بدلّا من الصعود، لأنٍ الحكاية ستتغلّب على ما يمكن أن نسمّيه الفحوى الإنتاجية.
إنّ الكثير من الرّوايات العالميّة والعربيّة عامةَ   والعراقيّة خاصّةً، أخذت هذا المَنحى في وضع الفكرة، لتكون هي الإعلان الضوئي الكبير اللّافت، ويكون كلّ ما يسقط تحته هو عملية جذب المستهلك/ المتلقّي/ القارئ. ولهذا فإنّ مقولة "إنّ الأُسلوب في القصّة يأتي وسيلةً لا غايةً في ذاته"، كما ذكر ذلك الدكتور محمّد يُوسف نجم في كتابه (فنُّ القصّةِ)، لم تعُدْ مرهونةً بتفكير المتلقّي، وأنّه هدف إيصال الفكرة، من خلال بساطة الأسلوب واللّغة الهادئة، بل إنّ الغاية هي البحث عن وسيلةٍ لكي تكون المشاغلة  الفكرية واقعةً بين طرفي المعادلة المنتج/ الروائي، والمستهلك/ المتلقّي/ القارئ. حينها ستأخذ الفكرة مفعولها المتعارف عليه، من أنّها سَتُحدّد الأسلوب، لكنّ الفكرة الفلسفيّة تتحدّد ماهيةُ اشتغالها بكلّ حيثيات السؤال/ الأسئلة الفلسفية الّتي صنعتها الفكرة.
إن الإنتاج الرّوائي لم يعُدْ ناقلًا لحكايةٍ ما، فقد تطوّرت المفاهيم التي تخصّ عمليتي الإنتاج والتلقّي. بالرغم من أنّ النقد بحدّ ذاته لم يزل في الكثير من مفاتيحه مناقشاً للحكاية، وردود أفعال شخوصها ومتونها، بشقّيها المتن الحكائي والمبنى السردي، مع وجود نقدٍ حداثيّ يأخذ بالدواخل الإنتاجية، لهذه الرواية أو تلك.
وهو يفعّل ويقشّر ويفكّك، من خلال مفاتيح النقد الحديثة، لكنْ هناك اعترافٌ أيضّا من أنّ روايات الفكرة والأسئلة الفلسفية والمتن النقاشي، أصعب من ناحيتي الإنتاج والتلقّي؛ كون هذا الأمر كان يقلّل عدد القرّاء، لكن مع تنامي الفعل القرائي ووعي المتلقّي، أصبح هذا النوع من الروايات يتقدّم بخطواتٍ واثقةٍ، حتّى لدى القرّاء الذين بدأوا بالبحث عن السؤال، من أجل المشاركة في الإجابة، لأنّ الأمر الصعب، ليس الإجابة، بل السؤال الذي يأتي بالإجابة.
بالرغم كذلك من أنّ هناك من يعتبر الفكرة هي لُبّ العمل، أو أنّ منها تتفرّع العناصر الأخرى، وحتّى  تحديد الشخصيات، لكن هكذا قول مرهونٌ بالثوب الذي ترتديه الحبكة، والبقاء بذات الدائرة الأولى، وبالنتيجة ستبقى العلاقة هي تقديم حكايةٍ للمتلقّي من أجل إدهاشة، وليس للمشاركة في صُنع السؤال، والدخول في المستوى القصدي، بل البقاء في دائرة تأويل عناصر الروي. فالرّواية الآن هي أنّ الحكاية ترتدي ثوب الفكرة، وأن الخيّاط الماهر هو الذي يجعل في هذا الثوب علاماتٍ جاذبةً تُشاغل العقل وتبتكر الإجابات.
إن القصد الذي ننوّه إليه في العنونة، لا يعني أنْ تكون الرواية فلسفيةً، بل هي ترتدي جلبابه، فالفلسفة لها شأنها، لكن النصّ الروائي له عليّته الكليّة، كونه ليس نصّاً تابعاً لأفكارٍ الأخرى، بل هو صانع لفكرته الخاصّة، المستلهمة من جميع أفكار الآخرين،  سواء من مدوّني أفكار الوقائع التاريخية أو الدينية أو الاجتماعية أكانت واقعيةً أمْ متخيّلةً كُليّاَ.