نزوح الواقع إلى الأمل

ثقافة 2024/05/06
...

  أ. د. درية فرحات

{النّزوح نحو الممكن} مجموعة قصصيّة للكاتب ميثم الخزرجي، تتضمّن عشر قصص قصيرة، وتحفزّنا هذه المجموعة للحديث في عدّة نقاط أوّلًا العنوان من أهم النّصوص الموازية للنّص إذ أنه أوّل ما يصافح بصر وسمع المتلقي، وهو المفتاح الذي ستُفتح به مغاليق النّص، العنوان مفتاح أساسي يتسلّح به المحلّل للولوج إلى أغوار النّص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها. وهذا العنوان الذي يتكوّن من ثلاث كلمات، توحي بمسألة الانتقال فالنّزوح هو ترك الشّخص منطقته ليستقر في مكان آخر، ودلالة استخدام النّزوح يختلف عن الهجرة، فالهجرة تنمّ عن سابق تمعّن وتفكير، أمّا الكلمة الأولى ففيها إشارة إلى ما يحدث فجأة من دون سابق تخطيط، وقد يكون قسريًّا فيفرّ المرء بسبب الصّراع أو الاضطهاد.
وليكتمل معنى الانتقال يكون نحو الممكن، وهنا نتساءل ما هو هذا الممكن، لغويًا نرى أنّ الممكن هو المستطاع والمتيسر، لكن ببعدها الفلسفي نرى أنّ هذا الممكن هو الذي يتساوى فيه الوجود والعدم، وهو إحدى مقولات الجهة ويقابله الممتنع والضروري، قال ابن سينا "لأنّ الواجب الوجود هو الموجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال. ومن هذا البعد الفلسفيّ الوارد في العنوان، نرى أنّ هذه الشّذرات الفسلفيّة قد نثرت في ثنايا المجموعة القصصيّة.
وهنا يبرز لنا أنّ هذا الممكن يرتبط بأحوال النّاس بين البؤس والفقر والحرب، وفقد الأمل والبحث عنه، وخسران الجمال ونشدانه، هي مجموعة تنقل أحوال النّاس وهمومهم وواقعهم اليوميّ، وتكشف عن المحن ومرارة الفقد، وإذا أخذت المجموعة منحى محليًّا في التّعبير عن الوجع العراقيّ، لكنها قد تحمل بعدًا إنسانيًّا عامًّا.
يحرص الكاتب على نقل هذا الواقع الاجتماعيّ لمجتمع العراق وأن يعبّر عن العديد من الآثار السلبيّة التي تركتها الحرب وما نتج عن الطّائفيّة من شرخ كبير في المجتمع العراقيّ، فيرد في قصة غصّة كونيّة "هذا ما جعلني متأكدًّا من أنّ عدوّنا واحد" في إشارة إلى أنّ "داعش" الإرهابي عدوّ لكلّ الطّوائف في العراق. أمّا في قصّة "جمال مضمر" فيشير إلى وحدة تجمّع المعلمين من عدة طوائف في سكن المعلمين "لتسرقني مخيّلتي وأنا أستمتع بقفشات الأستاذ عبد الجبار التي تعطي لحديثنا فسحة من الرّخاء بأنّ هنالك وطنًا مصغرًا جدًّا بحجم غرفة الاستراحة يسعنا بهمومنا وأحلامنا المؤجلّة، بما نحمله من وجع وابتسامة بشجن منغمس بكينونتا".
والرّاوي في هذه القصة يعبّر عن هموم الوطن من خلال هذا المجتمع المدرسيّ، فيصوّر حالة الفقر، "ثمة حزن شفيف راح يحاكي دواخلي لتظهر ابتسامة خجلة نزّت لتقول؟ ما هذا المكان؟... هل هو مكان لطلب العلم أم ماذا؟.. حجر مبنية من الطين"، ويتأمّل حجرة التّدريس، وملابس الطّلبة وغيرها.
وهذا الهمّ الذي يشير إليه الخزرجي يدفعه إلى الكتابة  فتأتي العتبة النّصيّة في الإهداء "إلى ذلك الهمّ الذي يمارس فورته فينا ليجعلنا نكتب". لهذا كانت مجموعته تعبيرًا عن هذا الهمّ الفرديّ والجمعيّ، يقول في قصّة جمال مضمر "تحدّثنا طويلًا ضحكنا وتشاركنا الهموم، متطلّعين لغدٍ مشرق"، وهذا ما ينشده الكاتب، فهو وإن كان الهمّ حافزه للكتابة، لكن هو يريد أن يغيّر الحال ويبحث عن الأمل بغد مشرق.
ولعل هذا الغد المشرق دفعه إلى أن يبحث عن النّزوح نحو الممكن، فهو يبحث عن الجمال في كلّ ما حوله، وهذا هو الجمال الذي لمحه في ما رسمه طلابه في القصّة الأولى و"ثمة ما أسعى جاهدًا وراءه هو التّنقيب عن مكامن الأمل".
وبين النّزوح نحو الممكن والبعد الفلسفي البارز في هذه القصّة وغيرها، نراه بجانب آخر ينقل لنا واقعًا وحقائق معلومة، ومنها كما صوّر لنا هروب العسكري من مجزرة القاعدة العسكريّة المعروفة باسم "سبايكر" وفيها يقدّم إدانة إلى عناصر "داعش" الإرهابيّ.
وفي قصّة إعلان سرّ يقدّم الكاتب قصّة من الواقع، ويعتمد الكاتب في هذه القصّة الحوار بشكل لافت، ويبتعد عن المنحى الفلسفيّ والوصف والبوح الوجدانيّ المعتمد في القصص السّابقة، وينحو نحو الواقعيّة في عرض حكاية البطلة ليلى التي تعاني أزمة نفسيّة، ما يدفعها إلى رمي طفليها في النّهر. ومن الواضح أنّ الكاتب استوحى بطلة هذه القصّة من حكاية المرأة التى رمت طفليها في نهر دجلة وثارت حولها ضجّة كبيرة، تحاول أن تحلّل الظّروف التي تدفع أم إلى قتل أبنائها، وإذا قدّم الخزرجي مسوّغًا نفسيًّا لبطلة قصّته، فهو يريد من هذه الحكاية ربما أن يوجّه نقدًا للظّروف الاجتماعيّة التي أوجدها النّظام السّياسيّ والاجتماعيّ وانعكاسات ذلك على حياة المواطنين.
تمكن الخزرجي في هذه المجموعة من أن يعرض الواقع الاجتماعيّ المؤلم لوطنه من حرب وفقر وفقد وخلافه من المآسي التي تتّسم بالمحليّة وفي الوقت نفسه كانت لها بعد إنسانيّ يعبّر عن كل بيئة اجتماعيّة مقهورة، وقدّم ذلك في قصص تتميّز بالبوح الوجدانيّ والوصف وتداخل السّرد والحوار، وإن كانت بعض القصص تحتاج إلى تكثيف في بعض التّفاصيل، لكن هذا لا يمنع من أنّ الكاتب قدّم رؤيتة من خلال عمل يترك أثره في المتلقي.

{قاصة وناقدة وأستاذة جامعيّة من لبنان}