حازم رعد
يطلق مصطلح الفلسفة الدينية على اتجاهات فكرية ثلاثة، هي الإسلامية والمسيحية واليهودية، ولعل الأخيرة سبقت بظهورها على مسرح الحدث المعرفي قبل مثيلتيها، ولكنه لم يكتب لها الانتشار الواسع والكثيف لأسباب لعل أهمها عدم احتضانها من قبل سلطة ما، وكذلك لاستغراقها بالديني تماماً .
أما الإسلامية فهي الأوسع انتشاراً والأشد حضوراً بينهما، لأنها أوليت اهتماماً كبيراً، ولأن الديني “النص الوحي” حض عليها .
المسيحية والإسلامية تمثلان فلسفة العصر الوسيط الذي اتسم بطبيعتين، الأولى هي اعتماد العقل كمصدر مهم للمعرفة، والثانية محاولة التوفيق بين الديني والفلسفي، وهناك نقاط أخرى للاتفاق والاختلاف لا حاجة لعرضها لضيق المقام .
ما يهمنا الآن هو أن نسلط الضوء على خصوص الإسلامية بوصفها وريثا للفلسفة اليونانية، وناسخا لليهودية والنصرانية، وكذلك لأنها طبعت بصبغتها كل الفلسفة التي جاءت بعدها حتى فلسفة أوربا في عصرها الوسيط وفي ما بعده “عصر النهضة”، من خلال فلسفة ابن رشد وابن سينا وآراء الفارابي، وإضافات الفلاسفة العرب والمسلمين للفلسفة اليونانية إبان حركة الترجمة وتأسيس بيت الحكمة “خزانة الحكمة”.
إن جوهر الإشكالية يوضحه السؤال التالي؛ هل توجد فلسفة دينية “إسلامية”، أو إن ذلك تسامح في طرح المفاهيم والمصطلحات، وهذا ما سأحاول الإجابة عنه بمقالات عديدة، أولها الذي بين أيدينا الآن .
بدءا، لابد من معرفة أنه لمجرد قولنا فلسفة إسلامية فهو اعتراف ضمني بأنها تعتمد العقل بالدرجة الأساس بدل النقل أو الوحي، وهذا يعني أنها “أي العقلانية في الإسلامية”، جاءت تالية على الدين والنص الوحياني، لأنه من المعلوم أن ذلك يقوم على الوحي وثبات الحقيقة، بينما الفلسفة تعتمد على العقل وأدواته ولا تعتني بما سواه، وعند العودة إلى أولى محطات نشأة الفلسفة، نجد الانعطافة الأهم فيها أنها غيرت طريقة التفكير فيها من المثيوس ومن الديني “بشكل مجمل” إلى اللغوس “العقل”، وعلى هذا الأساس اعتبرت الفلسفة وقامت منذ ذلك الحين.
نعم هناك رؤية دينية أو آيديولوجية، وهذا حق لمختلف الاتجاهات والجماعات البشرية محاولين تدعيمها بمقاربات من الوقائع، أو بالاستناد إلى تفسير الحاجة إلى هذه الرؤية أو تلك بتفسيرات سايكولوجية “نفسية”، الأمر الذي اعتبره البعض ظمأ الإنسان الطبيعي إلى الانطولوجيا أو الإشباع الديني بتعبير أكثر قرباً من الوضوح .
هناك عمليات توفيق حاول جملة من المفكرين المسلمين إحداثها بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية، وهي محاولات سبقتها محاولات شبيهة لها في التفكير المسيحي، وهي عمليات معتبرة إذ إن أي محاولة لعقلنة أي خطاب أو توجه هي محاولة تستحق الإشادة، وأن تتضافر الجهود عندها لتخليص أي خطاب من النزعات الاستبدادية المتسربة فيه التي مؤداها بروز موجات من العصبيات والتطرف، وبالتالي قد ينعكس على السلوك العملي ويتحول الفكر إلى تصرف، ويجر هذا إلى العنف واحتكاك فيزيقي ساخن لا تحمد عقباه، ومن هنا تعد تلك المحاولات “العقلنة” للخطابات المختلفة عملية نوعية مهمة يصار إليها الأمر تفادياً للمحذور المحتمل وإذكاءً للفكر العقلاني المرن المنفتح على الآخر، وهذا ما يسمى تفلسفا داخل النصوص والخطابات الدينية والايديولوجية وغيرها.
وهناك نكتة أخرى لابد من التنويه بها، وهي تواكب هذه التفصيلة بالتحديد، هي أن الفلسفة الحديثة لا تقر إلا بما تتمكن من تفسيره كما يرى جان جاك روسو، ومعنى ذلك أن الكثير من النصوص الدينية التي لا يدرك العقل حقيقتها أو لا يتمكن من النفاذ لها، يسقطها العقل الفلسفي الحديث والمعاصر أيضاً عن الحجية ولا يعتبرها تامة، نعم قد يجد لها مساحة احتمالية في فضاء الإمكان، فإذا ما ثبتت يوماً أقرها العقل ، وهنا تكون وضعيات ما يسمى بالفلسفة الإسلامية مرتبكة، فلا هي تتنازل عن كل منابع المعرفة وتنحصر بإدراكات العقل، لتكون فلسفة خالصة، ولا هي تخط كيانها المستقل عن الفلسفة بوصفها رؤى ومعارف دينية تتوسل كل ما من شأنه أن يشكل دليلاً على صحة مدعاها، وعندئذ تكون علم كلام وليست فلسفة .
إن الفلسفة بما هي رؤى وتصورات نتاج للفلاسفة، فهي فكر وقراءات بشرية، بينما الدين نصوص وحيانية ثابتة لا يسمح للأيدي البشرية أن تطولها أو تقربها، وحمل الفلسفة على الديني يسبب ارتباكا أو مفارقة تجعل الفكرة والتسمية لا تستقيمان .
وعلى ذلك يمكن تكثيف الفكرة بالقول إنها إذا كانت فلسفة، فهي ليست إسلامية أو مسيحية، ولا يهودية أيضاً، لأنه كما هو معلوم، فإن أساس الفلسفة هو العقل، وهذا ليس إسلاميا أو مسيحيا وغير ذلك، هو مبدأ عام عند كل البشر، ولذا يصح مع الفلسفة كونها عالمية أو كونية ، وإذا كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية، فهي أيضاً ليست فلسفة، لأن تلك الديانات بالتأكيد تعتمد على النص الديني والوحي، فهي أديان وليست فلسفات.
ثم لماذا تختزل الديانة في الفلسفة، فقد تكون دائرة المعارف الدينية أوسع من الفلسفة كما هو الحال في الدين الإسلامي ، فهناك التفسير وعلم الكلام والمعرفة الدينية واللغة الدينية وغير ذلك من المجالات في داخل فضاء المعارف الدينية، فهي أوسع نطاقاً من الفلسفة .