بورخيس: الموت أعمى ضاحكاً وشجاعاً

ثقافة 2024/05/19
...

  أندرو ليلاند
  ترجمة: عبود الجابري

يفقد الكاتب الأرجنتيني بورخيس بصره الذي أسماه {بصر القارئ والكاتب} - في الوقت الذي أصبح فيه مديرا لمكتبة الأرجنتين الوطنية تقريبا، ما يعني أن ذلك جعله مسؤولاعن ما يقرب من مليون كتاب، في لحظة لم يعد يستطيع فيها قراءة كتاب واحد منها. لم يتعلم بورخيس طريقة برايل في القراءة، بعد إصابته بالعمى بورخيس، بعد تراجع طويل في الرؤية عندما كان في الخامسة والخمسين من عمره، وبدلا من ذلك، مثل ميلتون، كان يحفظ مقاطع طويلة من الأدب (من أدبه، ومقاطع من الكتاب الذين أحبهم)، وكان لديه رفاق يقرؤون له ويملي عليهم كتاباته.
كان نتاجه الأدبي غزيراً— نشر ما يقرب من أربعين كتابًا بعد أن أصيب بالعمى —  بمساعدة من والدته المُّسنةِ، ليونور، التي رافقته حتى وفاتها في التاسعة والتسعين من عمرها، والتي قامت بنفس العمل لوالد بورخيس، خورخي غييرمو بورخيس، وهو  كاتب أصيب بالعمى أيضًا في منتصف العمر. كان عمى بورخيس وراثيًا، وقد مات والده وجدته كفيفين، كما قال بورخيس في السخرية من العمى الموت "أعمى، ضاحكًا، وشجاعًا، كما أتمنى أيضًا أن أموت".
احتفظ بورخيس بوظيفته كمدير للمكتبة الوطنية، وأصبح أستاذا للغة الإنجليزية في جامعة بوينس آيرس. لكن الأدب بالنسبة له أصبح شفهياً بالكامل، وقرر استغلال مناسبة إصابته بالعمى لتعلم لغة جديدة، ويذكرني وصفه لمتعة تعلم اللغة الإنجليزية القديمة بغزواتي الأولى لتعلم القراءة عن طريق اللمس.
لقد حدث ما يحدث دائمًا عندما يدرس المرء لغة ما. وبرزت كل كلمة وكأنها منحوتة، وكأنها تعويذة. ولهذا السبب تتمتع القصائد المكتوبة باللغة الأجنبية بمكانة لا تتمتع بها في لغتها الأم، فالمرء يسمع ويرى كل كلمة على حدة. نحن نفكر في الجمال أو القوة أو ببساطة في غرابتها.
وقد وجد بورخيس في حداثة اللغة الإنجليزية القديمة، ارتياحًا ملموسًا تقريبًا في الكلمات غير المألوفة، كما لو كانت "منحوتة"، مثل الطباعة البارزة في تلك الكتب الأولى للمكفوفين التي طبعت في باريس قبل مائتي عام تقريبًا. ولكن لأن بورخيس لم يتعلم طريقة برايل قط، فإن تجربته الأدبية ظلت صوتية في الأساس: "لقد استبدلتُ العالمَ المرئيَّ بالعالمِ السمعيِّ للُّغةِ الأنجلوسكسونية" .
في المحاضرة ذاتها، سرد بورخيس "المزايا" التي أسبغها عليه العمى، لكنها كلها تبدو لي مبتذلة، أشياء كان من الممكن أن يتمتع بها بسهولة لو بقي كاتباً مبصراً: "موهبة الأنجلوسكسونية، معرفتي المحدودة باللغة الأيسلندية، سعادة الكتابة الشعرية الغزيرة." إنَّه سعيد بحصولِه على عقدٍ من أحدِ المحرِّرين لنشر ديوان شعري آخر، شريطة أن يكتب ثلاثين قصيدة جديدة في العام، وهو ما يشير إلى أنه يمثل تحدياً يكمن في أن عليه أن يملي القصائد على من سيكتبها له، ما يجعل التكيف مع العمى بالنسبة لبورخيس يعني، بكل بساطة، مواصلةَ عمله ككاتب.
غير أن بورخيس بدأ يكتب قصائده وقصصه بلهجةٍ أقلَّ تفاؤلا بشأن إصابته بالعمى، فيشير في "قصيدة الهدايا"، إلى أنَّ أحد أسلافه في إدارة المكتبة الوطنية، بول غروساك، كان أعمى أيضًا، بينما يستهل قصيدته بأن الله "منحه الكتب والعمى بلمسة واحدة"، وهو تعبير مكتوب بصوت رخو، قد يكون صوت بورخيس، أو غروساك.
 بينما يقول: "ما أهمية الاسم الذي يطلقُ عليّ، في ظلِّ كوننا متشابهان ولعنتنا شائعة ؟"، فلا يستطيع بورخيس التمييز بينه وبين "ذلك الميت الآخر":
أيهما الذي كتب هذه القصيدة؟
ذاتٌ واحدةٌ غير مبصرة، أنا جمعٌ؟
وقد غدا زوال هوية الكاتب موضوعاً طويل الأمد بالنسبة لبورخيس، وهو موضوع  سعى لتعميقه في أعماله التي نشرها بعد إصابته بالعمى، متأسّياً بقوله "لذلكَ فإنَّ حياتي عبارةٌ عن نقطةٍ، تقابلها نقطة"، في حين كتبَ في "بورخيس وأنا": "قليل من الشرودِ والسقوط، وينتهي بي الأمرُ بالضياع، وكلُّ شيءٍ يقع في غياهب النسيان، أو في يدِ الرجلِ الآخر
لستُ متأكِّدا منْ مِنّا، يكتب هذه الصفحة".
وكلا النصّين يعبّران عن نوع من أزمةِ هويَّةِ المؤلِّف، والقلق الناتج من التلعثم الذي شعر به عندما اضطُرَّ إلى إملاء عمله.
لقد اختبرت بنفسي شكلاً من أشكال هذا القلق، حين واجهت فقدان علاقتي البصرية باللغة، ولم يعد بإمكاني الاعتماد على البصر في الكتابة بعد الآن، هل سأظلُّ، مثل بورخيس، غير متأكد تمامًا من هوية من يكتب نيابة عني؟ وعندما حاولت الكتابة لأول مرة باستخدام قارئ الشاشة، وجدتني أكتب بسرعة كبيرة جدًا لم يستطع قارئ الشاشة مواكبتها، كنتُ أكتب في الفراغ، وكانت الكلمات مسموعة في ذهني، كان الأمر أشبه بالكتابةِ على الماء، أو النداء في الظلام، حتى عندما توقفت، وأعاد الكمبيوتر قراءة النص، بدت كلماتي غريبة، وتردد صداها بصوت ميكانيكي غير مألوف.
إن القلق من فقدان صوتي أمام جهاز الكمبيوتر كان له دور مهم في ارتياحي، فلست مضطرًا بعد ذلك إلى الضغط على أعصاب عيني  كي أرى، صرت مثل رجل يتعثر حينما يمشي بمفرده، إذا اضطر لذلك، ولكن من الأسهل تجنب العثرات من خلال استخدام العكازات.
حيث بدأت أريح عينيَّ عندما أستمع إلى فقرة كتبتها للتو، استعداد للعمى الذي يوشك أن ينتصر على الرؤية الشحيحة، فأنا أعلم أنني سأشعر بالارهاق، ويسارع الحزن في الاستيلاء علي، وفي المقابل أعرف أن علي أن أكمل عملي،  صحيح أني سأفقد القدرة على الطباعة، لكني لن أفقد الأدب الذي يتجاوز العيون.

________________

-  أندرو ليلاند: كاتب ومحرر نشر أعماله في نيويوك تايمز ونيويوركر، وهو مؤلف كتاب"بلد المكفوفين" يوميات فقدان البصر، والمقال مجتزأ من الكتاب.
-  المصدر:      LITERARY HUB