هندسة الشعر

ثقافة 2024/05/22
...

  محمد صابر عبيد

ما هو سرّ العلاقة بين {الشعر} و{الهندسة} إذا كان الشعر يقوم أساساً على العاطفة والخيال والمزاج الذاتيّ، في حين تنهض الهندسة على نظريّات وقياسات وحسابات دقيقة جداً، لكن هناك طبقة من طبقات -ما يبدو مفارِقاً داخل هذه الرؤية- تعمل على نحو مختلف ومغاير واستثنائيّ، بحيث يبدو فيها الشعر في تشكيله الأساسيّ -بوصفها نسقاً هندسياً- ينبني على وفق نظام خفيّ عالي الدقة والصيرورة، ليصل إلى أعلى وأبلغ درجات الهندسة بحيث يتمكن من استيعاب طاقة الحرية والانطلاق والانفتاح، وتحويلها إلى فعاليّة إبداعيّة خلاقة في نظامها وحيويتها وقدرتها على إنتاج موجات دلاليّة ورمزية لا تتوقف.

تكتسب هذه الرؤية حضورها اللافت في سياق نظامها الخفيّ القائم على اشتباك مثمر بين الوعي واللا وعي، وبين الحاضر والغائب، وبين القريب والبعيد، وبين المركزيّ والمهمّش، وبين الأقلّ والأكثر، وبين السطحيّ والعميق، لتسحب الحراك الهندسيّ إلى منطقة الحراك الشعريّ ضمن فضاء مشترك يغذّي أحدهما الآخر في انسيابيّة راقية، تكتسب قيمتها في قدرة الشعر على القيام بتمثيلات هندسيّة تضاعف من حساسيّته الشعريّة، وتسهم في تحويل طاقة الانضباط العالي في الهندسيّ إلى حريّة مطلقة في الشعريّ؛ بحيث تعمل أدوات الهندسيّ في تنظيم المسار الذي تتحرّك فيه أدوات الشعريّ لبلوغ الحالة النموذجيّة التي تكتمل فيها صورة الشعريّ.

يحمل مصطلح "هندسة الشعر" على هذا النحو صورة النظام الحيويّ الدقيق والمتكامل المتعلّق بجوهر الفعالية الشعريّة، وفي كلّ مستوى من مستويات هذا النظام ثمّة رؤية خاصة لها صلة بتقانة أو رؤية أو علامة أو إشارة تعمل داخل الميدان الشعريّ الفسيح، وتقدّم فكرتها في جانب معيّن وأصيل من جوانب الحراك الشعريّ العام في القصيدة، وهي تحتفي بالفضاء الشعريّ وتمنحه القوّة والحضور والمقصد في سياق توكيد أهمية الشعر وخطورته الجمالية والحضارية في الحياة، فضلاً عمّا تنتجه القصيدة من حالة إبهار وإدهاش وإمتاع راقية وفعّالة.

تتحرّك هذه الرؤية على نحو عام بما يجعل من هذا النظام الهندسيّ ضرورة أكيدة لتحصيل الكفاءة القادرة على النهوض بهذا الدور، ضمن رؤية كليّة تتحرّك فيها الأدوات بدقّة متناهية تنجز العمليّة بأعلى قدر من الإتقان، وتتمثّل التجربة بما يجعلها قادرة على المثول بين يدَي القصيدة الحاملة لإرث التجربة، وما تتكشّف عنه من ولادات إبداعيّة وفكريّة وثقافيّة وروحيّة تتجسّد في خريطة الحدود الكتابيّة للنصّ الشعريّ، وتطرح مقولتها وأطروحتها المركزيّة بلغة مغايرة وفريدة وجديدة تمتحن خبرات التلقّي ودوافع القراءة لدى القارئ؛ ولا تمنحه ما يرغب من تحصيل قرائيّ إلّا بقراءة واعية ومدركة تستعين بكلّ ما أمكن من قدراتها القرائيّة للوصول إلى مرتبة تفكيك البنية الهندسيّة للقصيدة أولاً، ومن ثمّ تحرير الحيوات الفكريّة في أعماق هذه البنية وإطلاقها في سماء القراءة بحريّة وأصالة وعطاء.

ولا شكّ في أنّ كلّ حلقة من حلقات هذا النظام الحيويّ تنبع من خبرة ذات حساسيّة إجرائيّة ورصيد معرفيّ نظريّ وميدانيّ؛ أهّلها كي تنتمي إلى حقل يجرؤ على تسمية نفسه "هندسة الشعر" بثقة كبيرة تجعلها قادرة على ذلك ومؤّهلة لهذا الدور الحسّاس والاستثنائيّ، في سياق المعرفة الشعريّة العامّة والخاصّة التي تتدخّل في صميم حركيّة الهندسة وجوهرها الفعّال، على صعيد إنتاج الرؤية القادرة على حمل تفاصيل المهمّة وإجراءاتها بما يضمن الوصول إلى تشييد النظام، على وفق فعاليّة هندسية ترافق مراحل العمل أجمعها بحيث لا تتوقّف حتّى بعد الانتهاء من بناء النظام، لأنّ التأثير الجماليّ المرتبط بهويّة الهندسة تبقى سارية وفاعلة بلا توقّف ولا انتهاء؛ لا بل تتجدّد بتجدّد حركيّة التلقّي 

والاستقبال.

لا تهدف هذه المستويات التي تجتهد في صوغ هندسة خاصّة لهذا الكائن الإبداعيّ إلى وضع نظريّة جديدة للشعر، ولا تتقصّد فرض مفهوم جديد يجعل الشعر أكثر وضوحاً وتجلّياً وقُرباً من القارئ، ولا تروم تقديم نصائح أو منح صكوك غفران للشعراء تجيزهم وتأخذ بأيديهم نحو برّ الأمان، بل هي شبكة من الخطوط تتدافع فيما بينها لتقديم رؤية تأتي إلى فضاء الشعر من زوايا مختلفة وظلال مضيئة، لا تمدح ولا تهجو، تريد في نهاية المطاف رسم الصورة واقتراح أدوات تشغيلها برحابة ويسرٍ وطاقة جماليّة خلّاقة.

لا بأس من الاعتراف أيضاً بأنّ هذه الرؤية -وهي تجتهد في صوغ هندسة مُعيّنة للشعر- رؤية ذاتيّة صرف؛ لا تُلزِم أحداً بتبنّيها أو الإقرار بها أو اعتمادها ركيزة أساسيّة في بناء قناعة من هذا النوع، إذ هي فكرة خاصّة تعبّر عن تجربة وخبرة وإحساس وممارسة وذائقة تمتدّ على ما يقرب من أربعة عقود خلت؛ كانت فيها الحريّة وفكرة اللعب هي الهويّة المعتمدة في القراءة والبحث وقصّ الأثر الشعريّ في الأشياء، فالنظريات كثيرة والادّعاءات كثيرة والأحلام كثيرة والتطلّعات كثيرة والأفكار كثيرة والكلام كثير، لكنّ الخلاصات العميقة الراقية قد تكون قليلة في ظلّ هيمنة "الكثير" على فضاء التواصل بين الأشياء، ولا نطمح في سياق هذه الرؤية سوى أن نضع بين يدَي السنبلة فرصة جديدة للامتلاء، وبين يدَي القمر مزيداً من الإمكانات لجعل اللقاء ممكناً بأعلى ما يمكن من كثافة الظلّ وسحر الخفاء.