هل كان المعرّي ً غنوصيّاً

ثقافة 2024/05/22
...


عادل الصويري 




أُشيع عن أحمد بن عبد الله بن سليمان التُنوخي، (أبو العلاء المعرّي)؛ بسبب أبيات كتبها يشرح فيها ظروف عزلته وابتعاده عن الناس، أنَّهُ غنوصيُّ أو متأثِّرٌ بالغنوصية، والأبيات هي:

أراني في الثلاثةِ من سُجوني ... فلا تسأل عن الخبرِ النبيثِ

لِفَقْدي ناظري ولزومِ بيتي ... وكون النفس في الجسم الخبيثِ


ربما لم يستطع الذين أشاعوا عن أبي العلاء الغنوصيةَ أن يروا انعكاس الابتلاءات التي ابْتُليَ بها، وأثَّرت في شخصيته وطريقةَ كتابته في الشعر والنثر، والتي جرت في مواضيع كثيرة تحوم حول القضاء والقدر، والشك واليقين، والروح والجسد، واللغة ودلالاتها، والحضور في العزلة الاختيارية التي اختارها لنفسه، وصارت من لوازمه الوجودية؛ حتى أحب تسمية رهين المحبسين التي سمّى نفسه بها، وأكَّدها لقباً في مقدمة ديوانه (اللزوميات) إذ قال فيها: “قال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي رهين المحبسين تجاوز الله عنه، قال بقضاءٍ لا يشعر كيف هو”

والاتهام بالغنوصية، ليست التهمة الأولى التي واجهها رهينُ المحبسين، فقد اتُّهِمَ بالزندقة والكفر من فقهاء التشدد. وكل تلك الاتهامات كانت لجهل الذين اتَّهموه بطريقته الفلسفية العميقة، التي بدت غريبةً عن الأسلوب التقليدي المتعارف عليه في الشعر، فضلاً عن نسبية المعرفة الحقيقية بالتراث الكبير للمعرّي؛ بسبب ضياع الكثير من هذا التراث الذي وصل إلى أكثر من خمسة وخمسين مؤلَّفاً تم إتلاف أكثرها بعد الهجوم على معرّة النعمان، وهو ما أدّى إلى عدم الإحاطة الكاملة لمن اتهم المعرّي بتلك الاتهامات.

ولو عدنا لمن قال بغنوصية أبي العلاء، أو تأثره بها لمجرد أبيات كتبها في ظروف معينة، أو لتأصيل فكرة ما، فنقول إنَّ بيتين من الشعر لا يكفيان للجزم بغنوصيّة القائل، خصوصاً أنَّه سبق أن وُصِفَ بالتصوّف، بينما قال هو بصراحة أبياتاً في ذم المتصوفة: 

أرى جيلَ التصوّفِ شَرَّ جيلِ ... فَقُلْ لَهُمُ وأهْون بالحُلولِ

أَ قالَ اللهُ حينَ عبدتموهُ ... كُلوا أكْلَ البَهائمِ وارقصوا لي

وهذا يدل على أنَّ الذينَ اتهموا المعرّي بالغنوصية وغيرها، لم يكونوا سوى صدىً لمقولات قيلت قبلهم وهم رددوها على نحو المسايرة، من دون بحث أو استقصاء لمعرفة الحقيقة. كما أنهم لم يُفرِّقوا – وهذه إشكالية نقدية – بين التمرد الشعري الذي يتلبس أي شاعر قلق مسكون بالأسئلة الوجودية، وبين التمرد على أصل العقائد الدينية وجوهرها، فضلاً عن عدم انتباههم إلى أنَّ المعرّي الشاعر هدم الأساليب التقليدية التي جرى عليها الشعراء في كتابة القصيدة، رغم أن الالتفات لهذه النقطة تحديداً انتبه لها ابن خلدون، حين أشَّر إلى القصور النقدي لأهل الشعر بقوله: “ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مرّ، فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر”.

كما لا يمكن القطع بغنوصية أبي العلاء، وكأن الشعر عنده يمثل كل عوالمه، وعدم الالتفات إلى أعماله النثرية التي تبدو بعيدةً عن الغنوصية، حتى إن اقترب بعضُها من الفلسفة والقلق، وشظايا لآثار الفلسفتين الهندية والإغريقية على حياته وتجربته؛ لكن البعض الآخر حضر فيه الإيمان واليقين والطمأنينة التي هي نتاج الانقطاع إلى العبادة والروحانيات، بينما في الغنوصية لا يوجد داعٍ للوسائل العبادية كالصلاة مثلاً، وهذا ما يُنفى عن أبي العلاء. فحين نقرأ له في (رسالة الغفران): “فطفت على العترة المنتخبين فقلتُ: إني كنتُ في الدارِ الذاهبة إذ كتبتُ كتاباً وفرغتُ منه ، قلتُ في آخره: وصلّى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى عترته الأخيار الطيبين. وهذه حرمة لي ووسيلة، فقالوا: ما نصنع بك؟ فقلتُ: إنَّ مولاتنا فاطمة عليها السلام قد دخلت الجنة منذ دهر، وإنها تخرج في كل حين مقداره أربع وعشرون ساعة من الدنيا فتسلّم على أبيها وهو قائم لشهادة القضاء، ثم تعود إلى مستقرها في الجنان، فإذا هي خرجت كالعادة، فاسألوا في أمري بأجمعكم، فلعلَّها تسألُ أباها فيَّ”.

والمتأمل في سياق هذا النص ودلالاته سيقول فور الانتهاء منه إنَّ القائل فقيه من فقهاء الشيعة الإمامية أو أديب من أدبائها اللامعين، وإلاّ أين تتجلى مظاهر الغنوصية المزعومة، سواء في هذا النص أو غيره من نصوص (رسالة الغفران) الروحانية؟ هل في الغنوصية ما يشير إلى اليقين بالثواب الذي يُجزى به المرء عن عباداته ومعتقداته التي تكتب في سياقات لغوية صرفية تعتمد الأسئلة الحوارية؟

نستطيع القول إنّ (رسالة الغفران) التي كتبها المعرّي جواباً لرسالة ابن القارح الحلبي اشتملت على ذات الجدل الذي نحن بصدده من الغنوصية المزعومة لأبي العلاء، خصوصاً مع قصدية لا تخلو من الخبث، والتي جاءت برسالة ابن القارح التي أراد بها استبيان رأي المعري، سواء في شعراء قريبين إلى نفسه، قدح ابن القارح في معتقداتهم كالمتنبي وأبي تمام، أو في طبيعة علاقته مع أبي القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن محمد المغربي، أحد أقطاب الدولة الفاطمية، إذ كان المعرّي مًحبّاً له، ويعتبره عالماً جليلاً، ومن درر المعرفة ونفائسها، حيث اعتقد طه حسين في كتابه (مع أبي العلاء في سجنه) أنَّ المعرّي “هو الفاطمي العظيم الذي لم يرتد ساعة”. كما ذكر طه حسين في كتابه أنَّ صديقه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون اعتقد بأنَّ صلةً ما تربط بين المعرّي والإسماعيلية.

والواضح من جواب المعرّي الحذر تجاه أسئلة ابن القارح، والذي لم يقدح أو يمدح فيه ما تم ذكرهم من المطعونين في عقائدهم يؤكد أنَّ أبا العلاء قد يكون معجباً ببعض الأفكار الباطنية؛ لكنَّ ذلك لا يعني أنه يتبناها بشكل مطلق على نحو الانتماء.

وحينَ سُئِل الشاعر والناقد العراقي خزعل الماجدي عن إمكانية أي شاعر أن يكون غُنوصيّاً كان جوابه قطعيّاً بالنفي؛ لأنَّه يرى أنَّ الغُنوصيّة “حاسّة استثنائية لا توجد عند كل فرد، أغلب بل معظم الناس لا حاجة لهم بها وهم لا يعرفون ما هي وما فائدتُها، لكنَّ الفرد الذي تتملّكه هذه الحاسّة يرى ما لا يراهُ غيره، إنها أقرب لأن تكون قوة باراسايكولوجية تتمتع بقدرة هائلة على الاتصال بالعوالم غير المنظورة). والغنوصية مفهوم ديني يصل إلى أقصى أشكاله – بحسب خزعل الماجدي – بالاتحاد مع الإله ومعرفة أسراره، وأنَّ النفس والروح جزء من الإله تعود له وتتحد معه.

ولو أردنا إسقاط هذه الاشتراطات على مجمل تجربة أبي العلاء المعرّي؛ فهل سنصل فعليّاً إلى غنوصيَّته المزعومة؟

صحيح أنَّ التراث الشعري للمعرّي يشتمل على جزء من هذه الاشتراطات، لكن هل كانت لهذا الجزء الصغير من تراث المعري  تلك “الحاسّة الاستثنائية”. وهل يمكن القول باعتقاد شخص لمجرد أبيات شعرية قالها؟ 

ماذا عن الشعر الذي قاله في مواضيع لا تنتمي للغنوصية؟ وهو شعر كثير وغزير، فضلاً عن نثرياته العظيمة التي تؤكد يقينه وإيمانه في مواجهة تهم الزندقة والإلحاد التي طالته؛ لجهلٍ أو حسدٍ أو تطرّف.