إشكاليَّة النثر

ثقافة 2024/05/26
...

  أحمد الشطري


منذ ظهور ما عرفت بـ "قصيدة النثر" في عالمنا العربي والكلام دائر ومحتدم بين مؤيد ومناهض لهذا الفن لمختلف الذرائع، ولعل أولى تلك الذرائع أنها جنس طارئ مستورد من المصنع الغربي، وتأسيسا على هذا فهي لا تنسجم مع متبنياتنا الذائقية، باعتبار أن الذائقة هنا هي الحكم بين ما هو مناسب وغير مناسب لأعرافنا القرائية أو الأدبية، مع أن ذائقتنا الجمالية تتلقى الكثير من النتاج المستورد بمختلف أشكاله، كما أنها لا تفرق من الناحية الشكلية عن نتاجنا النثري الذي نتلقى الكثير منه بإعجاب سوى بالتسمية التي يبدو أن الدوافع النرجسية هي الباعث لتلك الاعتراضات.

وإذا كانت حدة ذلك الصراع قد هدأت نوعا ما وأصبح ثمة رضوخ للأمر الواقع، فإن ثمة إشكالية أو عدة إشكاليات ما زالت قائمة، سواء كانت ظاهرة معروفة لكثير من المهتمين أم مستترة تحت غطاء الجهل بها أو التغاضي عنها. 

وقبل كل ذلك لابد أن نشير هنا إلى أن هذا الصراع بين "العموديين والتفعيلين والنثريين" إن جازت التسميات، هو صراع مفتعل وليس حقيقيا، فلكل شكل من هذه الأشكال أدواته وتقنياته وجمالياته ومجالاته الإبداعية التي تلتقي وتفترق في ذات الوقت مع وعن الشكل أو الجنس الآخر، ولكن صناعة هذا الصراع متأتية من سوء فهم أو جهل بما ينطوي عليه كل شكل من هذه الأشكال من بناء تقني أو محتوى جمالي ورؤيوي، أو هي نتيجة ردة فعل لا تستند إلى وعي بالمشكلات المثارة.

إن ذائقتنا مازالت مشبعة بالسحر الإيقاعي للعروض والقافية، كما أن ذلك السحر الإيقاعي مازالت تتربى عليه ذائقة أجيالنا المتعاقبة، وإنْ تسرَّب ثمة نوع من التسامح الضعيف لسحر جماليات الأشكال الأخرى، ولكن الهيمنة مازالت لذلك السحر الإيقاعي الموروث، ومن هنا نرى أن صعوبة الفهم أو التعامل مع تقنيات قصيدة النثر مازالت قائمة انتاجا وتلقيا، وهذا ما يشكل نقطة ضعف مستمرة تخل بمعيارية التوازن بين الأشكال التي تجتمع تحت عنوان واحد هو "الشعر"، رغم تأكيدنا أن هذا العنوان ليس سقفا حقيقيا يُشرْعِنُ افتعالية الصراع، فليس ثمة تزاحم في مساحة الحيز الذي تشغله الأشكال المتنوعة، إذ أن لكل شكل حيزه الإبداعي المؤثث بأدواته الانتاجية التي تتيح له الاشتغال عليه، وتقديم المنتج الجمالي الممهور بتقاناته الخاصة. 

إن أهم ما يواجه قصيدة النثر ليس الفعل المضاد ممن يتبنون الأشكال الشعرية الأخرى، بل هو عدم إدراك تقنياتها من جانب، أو عدم القدرة على العمل على تلك التقنيات في حالة إدراكها من جانب آخر، سواء على مستوى الإنتاج أم على مستوى التلقي.

وكثير أولئك الذين يخلطون بين ما أسماه "ماكس جاكوب" بـ"قصيدة النثر والنثر الشعري" وهو توصيف دقيق للحالتين كما أرى، وما يمكن أن يميز بين النوعين هو ما أشارت له سوزان برنار من معايير خاصة تتميز بها قصيدة النثر ولعل أهمها هي: "الوحدة العضوية والإيجاز أو التكثيف والمجانية".

إن هذه المعايير هي ما يجب أن يجعلنا نميز بين ما يسمى "بقصيدة النثر" وما يسمى "بالنثر الشعري"، وقد يقال أن الالتزام بهذه المعايير ينطوي على نوع من التقييد لا ينسجم مع مبدأ "التمرد والفوضوية" التي جاءت بها قصيدة النثر. وهو أمر قد يحمل في جوانبه شيئا من المنطقية، رغم أن مبدأ الفوضوية بالذات يتناقض تماما مع مبدأ المنطقية.

إن قصيدة النثر بمسماها الذي حددت معاييره سوزان برنار، والتي أخذها عنها الأدباء العرب، لا بد أن يكون خاضعا لتلك المعايير، وإذا ما جرى التمرد على تلك المعايير، فيجب أن يخضع ما يكتب لمسمى مغاير؛ كي يكون هناك ثمة شرعية للمسمى الآخر، أو تمييزا عما هو داخل في إطار المسمى الأصلي.

إذ أن تلك المعايير تمثل "البصمة أو الهوية" أو السمات المميزة لها عما سواها، مثلما العروض الخليلية هي بصمة وهوية وسمة تميز ما يسمى بالشعر العمودي، وبناء على ذلك نرى إنّ أغلب ما يكتب من نصوص نثرية تحت مسمى "قصيدة النثر" هي في الوقع "نثر شعري" كما أسماه جاكوب، وليست قصيدة نثر؛ لأنها لا تلتزم بمعايير قصيدة النثر التي أشرنا لها.

على أننا يجب أن نشير أيضا إلى أن إخراجها من دائرة قصيدة النثر لا يخل بشعريتها أو محتواها الجمالي والإبداعي "وأتحدث هنا عن النصوص النثرية، التي تمتلك الهوية الشعرية"، بل هو مجرد تصنيف أو تحديد هوية تنسجم مع معاييرها التي تختص بها، سواء كانت محددة في إطار تنظيري معين أم منفلتة عن المحددات وذات طابع فوضوي.

وربما يعترض معترض على رؤيتنا بدعوى أن الخروج عما حددته برنار هو مسار تحديثي لقصيدة النثر نقول: إن ما وضعته برنار هو استخلاص لمعايير وجدتها في ما كتب من قصائد سميت بقصائد نثر سبقت ظهور تنظيراتها، مثلما وضع الفراهيدي النظام العروضي استخلاصا من نماذج وجد فيها تواطئا على نظام محدد، ووفقا لذلك فإن هذه المعايير هي ما تميز "قصيدة النثر" عما سواها، مع احتفاظ النوع الآخر بشعريته وخصوصياته وجمالياته؛ إذ إن موضوع التفريق أو التمييز يختص بالتسمية وليس بالقيمة الاعتبارية.