طالب جبار.. اللّوحة جدار للفرح والحياة

ثقافة 2024/05/29
...

 د.جواد الزيدي


يتخفى طالب جبار إنساناً وفناناً داخل أسوار بغداد وحاراتها وأزقتها منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر، ليتعرف على تفاصيلها ومنابع خيوطها السرية التي تتجلى بعد حين في لوحاته، أو في مجمل خطابه البصري الذي يقترن ببغداد المدينة وأحلام الناس والمعالم، واستطاع برؤية المحب العارف للتعبير عنها عائداً إلى سراج المُخيلة الذي يُضيء الأشياء، ويكشف عتمتها ويمنحها دفء الاحساس بالمحبة والأمان، واستحضار ملامح البراءة في ملامح النساء، وألوان الأزياء التي تتسم بها لوحته، إنه عناق المُخيلة بالواقع في لحظة تجلي على قماش اللوحة والسطح التصويري الذي ينتقل إليه جبار بسهولة في ضوء مخزون الذاكرة ومادتها الحية الرئيسة. 

فالمفهوم الشعبي عنده يتقصد الشكل واللون والمضمون الكامن فيهما سواء كان ذلك في الأزقة الشعبية أو في القرى والقصبات البعيدة حين تشترك ببعض السمات التي تم ترحيلها إلى عصره الحاضر. 

تلك الملامح التي يحتفظ بها على امتداد حياته، على الرغم من مغادرتها على أرض الواقع، لكن عالماً حلمياً، أو واقعاً ممكناً استطاع أن يحققه في خطابه المرئي، ليكون معادلاً روحياً للمفقود الذي لا يُمكن استرداده إلا من خلال طاقة الحلم.

 لقد حدد مساره منذ زمن بعيد بمغادرة المباشرة في التعبير عن الواقع متخذاً من التعبيرية منهجاً للتواصل مع الخارج الموضوعي، فهو يرسم جدران للفرح يتغير محتواها بتغير الحالة والفئة التي يستهدفها في التجسيد، إذ لا يمكن تصور لوحته بشكلها المجرد من دون العودة للمرجعيات الاجتماعية والبناء الشعبي الذي يتقصده، لأنه أبن هذا التاريخ، وهذه الطبقة صانعة الخبر والحياة والثقافة بامتلاكها الوعي الجمعي الذي يُحركها نحو صياغة الأهداف المطلوبة، فهو سليل المدرسة البغدادية في الرسم، تلك التي تذكرنا بما أنجزه الكبار “جواد سليم، وشاكر حسن، واسماعيل الشيخلي، وفيصل لعيبي” الذين تمسكوا بإطار العائلة والبنية الاجتماعية وتصوير كل ما يحيط بها، فهو يتتبع بشكل أمين طقوس العائلة، بوصفها المُكون الأساس لبنية المجتمع، فتتحول طرائق تعبيره وتقنياته بتحول أطوار الكائن نفسه، إذ ينزع إلى الإغراق في التفاصيل لحظة معينة يستطيع من خلالها استعراض ملامح الرجل والمرأة والطفل للتعبير عن تلك التراتبية العائلية، ويهرع إلى تقانة الخطوط الخارجية في رسم مكونات العائلة الأساسية أو مكونات الوجود، وثنائية الحياة “الرجل والمرأة”. 

وبخلاف اهتمامه في الخطوط الخارجية للشكل يقتصد في بنية اللون ويتجاوز بعضه ممسكاً بدلالة المضمون للتعبير عن الفكرة، مُبتعداً عن اظهار تماثلها مع الواقع. 

ويحاول جبار استعادة هذا الأثر الجمالي وصياغته ضمن إنموذجه المفترض الذي يؤمن به، ويسعى إلى تكريسه عبر تجربته الفنية. 

العائلة التي تعود من سفرتها إلى المدينة، وهي محملة بالأشياء المحببة والجميلة، فضلاً عن السعادات التي رسمها على وجوه الأطفال بفرح طفولي يحتفي بالحياة بتلك العفوية الطاغية على الوجوه، وهم يغادرون عجلة النقل الجماعي، بوصفها صورة متعينة  تعود لفترة محددة من تاريخ المدينة العراقية، وأزياء العائلة بكامل أناقتها وحشمتها على عكس أزياء الأطفال المزركشة ذات الألوان المميزة “حمر، وخضر” وما بينهما بمعالجات تقنية أدركها تماماً، بما يتلاءم مع الاتجاه الفني في التعبير وارتدادات الواقع نفسه بالعودة للأشياء الأولى مهما كانت عفويتها، إلا أنها تمثل صُدق التجسيد النابع من المعرفة التفصيلية لإدارة الخطاب وتفكيك شفرات الايقونات الصورية المتأتية من الواقع نفسه. إنه يكتب جداراً للفرح من خلال الصورة، فهو يرتحل مع العائلة بمعناها الشمولي غير المحدد إلى أمكنتها الخاصة من السوق إلى مناطق اللهو لتمثيل السعادات الداخلية بطرائقه المتعددة. ففي ذات الثياب الموشحة باللون وأغطية الرأس وبهيكلية العائلة يصورها أمام احدى الألعاب الشعبية، أو في المناطق الأكثر انفتاحاً وهم يحملون طائراتهم الورقية الموشحة بمنظومة الألوان ذاتها، أو عند بائع الأكلات الشعبية التي تستهوي الطفولة وتعبر عن مواسم الفرح والاحتفال من أمام بعض المزارات والمراقد التي تعد أماكن للقاء بالآخرين ومناسبات للفرح الجماعي.

وحين يريد تمثيل الواقع في لحظة أكثر تغريباً للأشكال فأنه يحاول أن يجترح موضوعاً خاصاً يسمح بذلك، فيلجأ إلى رسم طفلان “ولد وبنت” أمام جدار كبير وهما يلهوان بلعب شعبية تتمثل في دوائر حديدية يمارسان القفز من حولها بألوان أثوابهما المشعة المكونة من “الأحمر والوردي” أمام ذلك الجدار الذي يحتوي العديد من الكتابات المحذوفة، والذكريات التي تركها الراحلون لتشير على أرواحهم البعيدة والمحلقة حول الجدار، وكأنه يشير إلى هجرانه من قبل الحيوات التي مرت به وخطت أسماءها وأمانيها عليه، وبذلك تحول الجدار إلى لوحة عابرة للأزمنة وإن مارس الطفلان لعبهما عليه بعفوية من دون معرفة الأسباب، أو تفكيك معنى الخطاب الذي يوازي عند جبار جدار الحياة والفرح من خلال عبث الطفولة، أو جداره المُعبر عن صورة الحياة العراقية قبل أن تداهمها التقانة المعاصرة التي حاولت تفريق هذا البناء الجمعي وإحالته إلى نواة فردية تتحرك وتفكر بمفردها من دون أدنى أهمية للذات الجمعية المحيطة بها. 

إنها نبوءة متقدمة وقراءة لمستقبل الحياة من خلال استحضار صورة الماضي القريب وإعادة انتاجها برؤية معاصرة من أجل خطاب جمالي يتسق مع أنظمة التلقي وقوانينها طبقاً لفهم الجنس الفني “الرسم” وقوانينه المُشيدة عبر مئات السنين.    

صورة الحياة العراقية قبل أن تداهمها التقانة المعاصرة