عاطفة الرواية وقوّة القصيدة

ثقافة 2024/05/29
...

ترجمة: نجاح الجبيلي



رحلت عن عالمنا الكاتبة الكندية أليس مونرو، المولودة في الـ 10 من تموز 1931، وهي كاتبة للعديد من المجاميع القصصية؛ منها “رقصة الظلال السعيدة”، “أسرار معلنة”، “أقمار المشتري”، “المتسولة”، كما حصلت على جائزة نوبل للأدب عام 2013. وقد كتب الناقد أنطوني دي بالما من صحيفة نيويورك تايمز هذا التقرير عن حياتها وأدبها:

بدأت أليس مونرو، الكاتبة الكندية الموقرة، كتابة القصص القصيرة لأنها اعتقدت بأنها لا تملك الوقت أو الموهبة لإتقان كتابة الروايات، ثم كرست حياتها المهنية الطويلة بثبات لإنتاج قصص مكتنزة نفسياً أبهرت عالم الأدب وأكسبتها جائزة نوبل. توفيت الحائزة على جائزة نوبل ليلة الاثنين، الـ 13 من أيار في بورت هوب، بمدينة أونتاريو، شرق تورونتو، وقد بلغت من العمر 92 عاماً.


كانت السيدة مونرو جزءاً من سلالة نادرة من الكتاب، مثل كاثرين آن بورتر وريموند كارفر، الذين أسسوا سمعتهم في الساحة الأدبية الصعبة للقصة القصيرة، وحققوا نجاحاً كبيراً. ركز الكثير من قصصها  على النساء في مراحل مختلفة من حياتهن، اللاتي يتعاملن مع رغبات معقدة،  وجرى استقبال قصصها  بلهفة وقراءتها بامتنان، لدرجة أنها جذبت جيلًا جديدًا بالكامل من القراء.

اعتُبرت قصص السيدة مونرو على نطاق واسع مزيجاً لا مثيل له من الأشخاص العاديين والثيمات المغايرة. لقد صوّرت سكان البلدات الصغيرة، غالبًا في المناطق الريفية بجنوب غرب أونتاريو، وهم يواجهون مواقف جعلت الفنتازيا تبدو وكأنها حدثٌ يومي. و اتسعت بعض شخصياتها بشكل كامل عبر الأجيال والقارات، إذ إنّ القرّاء وصلوا إلى مستوى من العلاقة الحميمة مع هذه الشخصيات، لا يحصل عادةً إلا مع الروايات الطويلة.

لقد حققت هذا الثراء من خلال براعة حرفية رائعة ودرجة من الدقة لا تضيّع الكلمات. أعلن كتاب آخرون أن بعض قصصها شبه مثالية، وهو ما يمثل عبئاً ثقيلاً على كاتبة ذات شخصية متواضعة كافحت للتغلب على نقص الثقة بالنفس في بداية حياتها المهنية، حين تركت الحضن الهادئ الذي يحميها في مسقط رأسها وغامرت في الانخراط داخل المشهد الأدبي التنافسي.

وضعتها الروائية الأيرلندية إدنا أوبراين جنباً إلى جنب مع وليام فوكنر وجيمس جويس ككاتبين أثرا في أعمالها. وقالت جويس كارول أوتس، إن قصص مونرو “تتمتع بالكثافة الأخلاقية والعاطفية والتاريخية أحياناً - التي تتمتع بها روايات الكتاب الآخرين”. وقد أوضح الروائي ريتشارد فورد ذات يوم أن التشكيك في براعة السيدة مونرو في القصة القصيرة سيكون أشبه بالشك في صلابة الماس أو عبق الخوخ الناضج. 

عند منحها جائزة نوبل عام 2013، حين كانت في الثانية والثمانين من عمرها، استشهدت الأكاديمية السويدية بمجموعتها القصصية الرابعة عشرة،  وأشارت إليها على أنها “سيدة القصة القصيرة المعاصرة”، مشيدة بقدرتها على “استيعاب التعقيد الملحمي الكامل للرواية في بضع صفحات معدودة فقط”.

وعلى الرغم من شهرتها بالنثر الحيوي الراقي  وحياتها الشخصية المتواضعة، رفضت السيدة مونرو السفر إلى السويد لتسلم جائزة نوبل، قائلة إن قواها تخونها. وبدلاً من المحاضرة الرسمية التي يلقيها الفائزون تقليدياً، سجلت مقابلة طويلة في فيكتوريا، بكولومبيا البريطانية، إذ كانت تزورها حين جرى إعلان فوزها بالجائزة، وحين سُئِلت عما إذا كانت كتابة قصصها قد استهلكتها بالكامل، أيدت ذلك.

النجاح المبكر الذي حققته السيدة مونرو في كندا بفوز مجموعتها القصصية الأولى، “رقصة الظلال السعيدة” (1968)، بجائزة “غوفرنر جنرال” الأدبية، التي تعادل جائزة بوليتزر للرواية، انتشر في الولايات المتحدة بعد أن بدأت نشر قصصها في مجلة نيويوركر عام 1977. وكانت عضواً مهماً في جيل من الكتاب الكنديين، إلى جانب مارغريت أتوود ومايكل أونداتجي، الذين تجاوزت شهرتهم حدود البلاد.

وفازت السيدة مونرو بجائزة “غوفرنر جنرال” مرتين أخريين، إلى جانب جائزتي غيلر، وهي جائزة وطنية مهمة أخرى في كندا، والعديد من الجوائز الأخرى. وفي عام 2009، سَحبتْ مجموعتها “الكثير من السعادة” من الترشح لجائزة غيلر، لأنها اعتقدتْ بأن الكتّاب الأصغر سنا يجب أن يحظوا بفرصة الفوز بها.

وفي العام نفسه، حصلت على جائزة مان بوكر الدولية عن مجموعة أعمالها التي استمرت طوال حياتها، والتي قال حكام الجائزة إنها “مثالية”. وعلقت لجنة الجوائز قائلة، إنه على الرغم من أنها كانت معروفة في الغالب ككاتبة قصة قصيرة، إلا أنها “تضفي على كل قصة نفس القدر من العمق والحكمة والدقة، مثلما يضفي معظم الروائيين هذه الميزات على رواياتهم”. وقال الحُكام: “في كل مرة تقرأ أليس مونرو تتعلم شيئًا لم تفكر فيه من قبل”.

ومع تطور أسلوبها متعدد الطبقات، لم تعد قصصها القصيرة مجرد قصص - فقد أدرجت 15 قصة في مجموعتها الأولى، ولكنها ضمت ثماني أو تسع قصص طويلة في بعض مجموعاتها الأخيرة. أعطى الطول الأكبر لكل قصة مجالًا لها لاستكشاف الملامح النفسية لشخصياتها بشكل أكمل، وكانت القصص الناتجة منسوجة بإحكام وذات شدّ كبير، وصدى دائم واتساع مذهل يجمع بين الزخم العاطفي للرواية والقوة الثاقبة للقصيدة. 

على مر السنين، بدت قصصها وكأنها أصبحت أكثر قتامة وأكثر تناقضًا، على الرغم من أنها غالبًا ما وصفت حياتها بأنها عادية ومتفائلة بشكل عام. غالبًا ما كانت شخصياتها بسيطة لكنها تواجه ظروفاً غير عادية. لكن هذه المواقف يمكن أن تكون غريبة جدّا، مثل حادث قطع رأس جندي عاد من الحرب بعد أن علق كمه في آلة مصنع، أو تصرفات فتاة غير جذابة تسرق الكثير من المال من والديها، مما اضطرهما إلى إعلان إفلاسهما. تميل النساء في قصصها إلى أن يكن ممزقات عاطفياً: مطلقات، وزانيات، وضحايا نبيلات بسبب تقلبات الحياة.

مثل فوكنر ويودورا ويلتي وغيرهما من الكتاب الأميركان الجنوبيين الذين أعجبت بهم، كانت السيدة مونرو قادرة على بث الحياة في عالم بأكمله، وهو بالنسبة لها، الريف في جنوب غرب أونتاريو والوجود الهادئ والمُهدّد أحيانًا لبحيرة هورون.

وقالت عنها الروائية سينثيا أوزيك: “ أليس مونرو هي تشيخوف عصرنا؟”.

في مراجعة عام 2009 لكتاب “الكثير من السعادة”، وصفت ميتشيكو كاكوتاني من صحيفة نيويورك تايمز قصة عنوان المجموعة بأنها “تقطير رائع لفنها التشيخوفي”.

تمكنت السيدة مونرو من أن تعيش حياة رائعة بسبب طبيعتها. كانت أيامها، مثل أيام شخصياتها، مليئة بالروتين اليومي الذي يتخلله الغموض المتفجر بالصدفة والطارئ.

وباستثناء العقد الذي قضته على الساحل الغربي لكندا خلال زواجها الأول، عاشت بقدر كبير من الرضا في علّيق أونتاريو، الذي احتفت به في قصصها التي كانت تؤلفها بهدوء في المنزل الذي نشأت فيه مع زوجها الثاني، وليس بعيدًا عن المكان الذي ولدت فيه.

ولعل السؤال الذي طاردها طوال مسيرتها الطويلة هو لماذا، بمواهبها الوفيرة وعينها الثاقبة، اقتصرت على ما يُنظر إليه عمومًا على أنه عالم القصة القصيرة المحدود، بدلاً من الانطلاق في عالم الرواية اللامع؟.

اعترفت السيدة مونرو لميرفين روثستين من صحيفة التايمز في مقابلة أجريت معها عام 1986: “أنا لا أفهم حقًا الرواية. لا أفهم أين من المفترض أن تأتي الإثارة في الرواية، لكني أفهم ذلك في القصة. هناك نوع من التوتر الذي إذا حصلَ في القصة بشكل صحيح، يمكن أن أشعر به على الفور”.

في حين أن إحدى مجموعاتها المبكرة، “حياة الفتيات والنساء”، تسمى أحيانًا رواية، إلا أن السيدة مونرو ومحررتها في دار نشر ألفريد أ. كنوبف، آن كلوز، اعتبرنها مجموعة من القصص المترابطة أو متوالية قصصية.