لعبة المعاني والدوال بين دريدا والجاحظ

ثقافة 2024/06/05
...

أوس حسن


لقد قال الأقدمون الأوائل كل شيء، وأتوا بما لم يستطع المحدثون الجدد الإتيان به، وينسحب هذا على الفلسفة الإغريقية وعلى الفلسفات الشرقية القديمة التي أبهرتنا بنصوص عن الرياضيات، والفلك، والطب، والموسيقى، ومنهم من قال بمادية العالم وأزلية هذه المادة. 

لو شئنا أن نتحدث عن الحضارة العربية الإسلامية؛ فأول ما سيتبادر إلى أذهاننا هي اللغة العربية، بوصفها من أكثر اللغات ثراء وتنوعاً وجمالاً في هذا العالم، وهي اللغة التي جمعت العرب في كتاب جامع مبين هو القرآن، وما وصلنا أيضا ًمن تراث العرب في المعلقات، والأشعار، والنوادر، والأخبار، وسير الأعلام، والملوك.


والعرب في عصور مجدهم التي عرفت الترجمة والنقل وعلم الكلام والمنطق، لم يتخلوا عن الفكر والمعرفة، ولا عن العلوم، لكن الحضارة العربية قبل كل شيء هي حضارة لغوية بامتياز؛ فلا سلطة تعلو فوق سلطة النص؛ لأن النص اللغوي هو المقدس، وهذه القداسة وضعت عائقاً كبيراً أمام تحرر العقل العربي وانفتاحه على مدارك الوجود الإنساني، وعلى آفاق العالم الواسعة. وكانت العرب تتباهى بفصاحة اللسان والخطابة والسلامة اللغوية. ومن سمات البلاغة عند العرب هي حسن الاستماع قبل كل شيء، ثم القدرة على الإيجاز، والإشارة بوضوح إلى المعنى المراد إيصاله، والابتعاد قدر الإمكان عن الإطناب في الكلام إذا كان فيه خطلٌ وهذر وتكلف، وهذا إن دلًّ على شيء؛ فإنه يدل على فرادة المرء وتميزه في المجتمع العربي، لما يمتلكه من قوة في التأثير ومهارات في اللغة لا تقل أهمية عن مهارات القتال والفروسية. لذلك، كانت العرب تعيب أي نقص خلقي عند الإنسان يجعله يخطئ في اللغة ومخارج الحروف، وأهم هذه النواقص هي اللثغة الخلقية التي تولد مع الإنسان، واللكنة الموجودة عند بعض العجم، أو عند العرب الذين عاشوا مع العجم، والتي تمنعهم من نطق بعض الحروف، كالسين، والقاف، والضاد، والحاء، وغيرها من الحروف التي يصعب على غير العرب النطق بها. إضافة إلى ذلك، فاللغة العربية تتميز عن غيرها من اللغات بالإيقاع الموسيقي الخاص لكل مفردة من مفرداتها.

الجاحظ والبنيوية

  عندما نطالع كتاب “البيان والتبيين” للجاحظ سنكتشف أن أغلب المذاهب في فلسفة اللغة كالبنيوية، والتفكيكية، والدال والمدلول، التي قرأناها على يد كبار فلاسفة أوروبا، مثل جاك دريدا، ورولان بارت، وفريناند دي سوسير، قد أورد الجاحظ بعضاً منها في كتابه “ البيان والتبيين” مستعيناً باللفظ والإشارة والخط. 

ولو لم يكن لدينا إلمامٌ بالمنهجين البنيوي والتفكيكي وأعلامهما البارزين في الفلسفة الحديثة، لمرت علينا نصوص الجاحظ مرور الكرام؛ فنحن لم ننقب جيداً في التراث العربي الذي يخفي في أعماقه كنوزاً فكرية ومعرفية. 

جاءت البنيوية لتدرس النص منفصلاً عن سياقاته الخارجية وظروفه، وأعلن رولان بارت موت المؤلف، فدراسة النظام اللغوي كبنية مستقلة من خلال مستويات عديدة، كالمستوى الصوتي، والدلالي، والتكوينات الرمزية؛ تولد مجموعة من القراءات التي تبحث في لا وعي النص وكاتبه، التي تحملنا إلى توليد معانٍ ثانوية غير المعنى الرئيس، وهذا المعنى الثانوي الجديد لا يلتقي مع أي معنى من المعاني الموجودة في النص، وهنا يصبح النص دالاً متكاملاً وعلامة جديدة. إن البنيوية تبحث عن المعنى المضمر في النصوص، وتجهد في سبيل معرفة المسكوت عنه من المعاني خلف الأبنية اللاشعورية.

يرى الجاحظ أن الإشارة واللفظ شريكان، فهي نعم العون له، ونعم الترجمان عنه، ويذهب أيضاً إلى أن مبلغ الإشارة أبعد من مبلغ الصوت. (الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق حسن السندوبي، مؤسسة هنداوي، 2023، ص78 - 80)

أما عن المسكوت عنه والمضمر في المعاني، فيتطرق الجاحظ إلى الإشارة بوصفها علامة لغوية صامتة للتخاطب الروحي بين الطرفين، ويورد قول الشاعر:..” وعين الفتى تبدي الذي في ضميره .. وتعرف بالنجوى الحديث المغمسا” ( نفس المصدر، ص79).





الدلالة والمعنى في عالم صامت 

ولا تقتصر المعاني عند الجاحظ على الألفاظ، والإشارات، والرموز، وإنما تمتد أيضاً إلى الطبيعة، والكون، والموجودات غير الواعية، من خلال ارتباطها بكينونة الإنسان ولغته؛ فقوة الاستعارة والوصف داخل اللغة ينبثقان من الرابط الذي يعقده الإنسان مع العالم الموضوعي الخارجي. والأشياء الصامتة عند الجاحظ لها بعدان في الدلالة والمعنى: البعد الأول هو الذي يوحد الكينونة والفكر داخل اللغة، لتتجلى هذه الكينونة في الأشياء والعالم الخارجي، كقول الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل: ( ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو... الحوادث عنه وهو ملموم)، أما عن الحدث الزماني وامتداداته خارج الكينونة فيقول الراعي النميري : ( إن السماء وإن الريح شاهدة ....والأرض تشهد والأيامُ والبلدُ).

كذلك قول أبي العلاء المعري وهو يعبر عن لا جدوى الحزن أو السعادة في هذه الحياة؛ فنرى انفعالات النفس وهي تفيض خارج الذات لتعطــــي دلالة ومعنـــــــــى لهـــــذه اللاجدوى:..( أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد). 

أما البعد الثاني فهو لغوي ديني مرتبط بالعبادة والطاعة والامتثال لأوامر الله، فالله هو الذي يخرج النور من الظلام، والظلام من النور، وهو الذي بيديه تتعاقب الفصول والأزمنة، وتدور الأرض والكواكب والمجرات، لذلك فقد أقسم بالليل وظلامه، وبالنهار وضيائه، وأقسم بالنجم والشمس والكواكب وحركتها الدائرية داخل أفلاكها ومجراتها. 

كقوله تعالى: ( والضحى والليل إذا سجى) ، وقوله سبحانه : ( والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس)، وقوله تعالى: ( والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى). 

وعن حركة الشمس والقمر والأرض، يقول تعالى:..                                                  ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

ومن الجمادات في العالم الموضوعي من يسير لغاية ولمعنى؛ إما في خدمة الإنسان، أو طاعة لله، مثل قوله تعالى: ( والشمس والقمر بحسبان)،  فالشمس والقمر يجريان بحساب متقن ومقدر، والغاية هي لحساب الوقت والزمن. لذلك، فوجودهما مرتبط بالوجود الذاتي عند الإنسان الذي يولد ويعيش داخل الزمان الأرضي. 

ومن الجمادات من يرتبط بكينونة الله مثلما يرتبط بكينونة الإنسان داخل الفكر واللغة، ويكون هذا عن طريق العبادة المحضة وحدها، كقوله سبحانه: ( والنجم والشجر يسجدان) وقوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚوَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

وعليه يمكننا أن نتوصل إلى أن المعنى في الوجود الذاتي عند الإنسان لا ينفصل عن الوجود الموضوعي، فالعالم ليس صامتاً، بل له وعي شامل وأسمى لا ينفصل عن وعي الإنسان ومدركاته الحسية، هكذا يتحول كل صمت إلى لغة، ويصبح صمت العالم ناطقا من حيث دلالته ومعناه. 

يقول الجاحظ:..” إن كل صامت هو ناطق من جهة الدلالة، ومتى دل الشيء على معنى فقد أخبر عنه وإن كان صامتاً، وأشار إليه وإن كان ساكناً” ( البيان والتبيين، ص81).

بين جاك دريدا والجاحظ

رأى دريدا أن النص عبارة عن حقل لا متناه من الدلالات المنفصلة عن المدلولات، وهذا النص يولد معاني أخرى في كل قراءة، فالمعاني عند دريدا متشظية ومبعثرة في النص، ولا يمكننا أن نصل إلى هذه المعاني إلا عن طريق مجموعة من الخطوات: كالأثر، والإرجاء والغياب والاختلاف، فالمعنى يبقى مرجأ دائماً ومتغيراً في كل قراءة. 

إذن، فالمعاني عند دريدا هي سلسلة من الغيابات، ولا تحضر المعاني بقوتها وسطوتها، لكن من خلال ظلالها وآثارها التي تحضر ثم تغيب، مولدة سلسلة جديدة من المعاني المترامية في النص. لهذا جعل دريدا من الكتابة أسبقية على الكلام بوصفها رمزاً من رموز اللاوعي الإنساني. 

عن الدال والمدلول، والمعنى المرجأ إلى ما لانهاية، يرى الجاحظ أن المعنى خفي دائماً، إذ يقول: “ إن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصلة محدودة” ( ص 78).

وفي أفضلية الكتابة على القول أو الكلام التي وردت عند دريدا .. يذكر الجاحظ:..” وقالوا اللسان مقصور على القريب الحاضر، والقلم مطلق في الشاهد والغائب، وهو للغابر الكائن، مثله للقائم الراهن. والكتاب يقرأ بكل مكان، ويدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه، ولا يتجاوز غيره” (المصدر ذاته، ص80).

أخيراً فإن ما جاءنا موجزاً ومقتضباً ومكثفاً من آثار أسلافنا الأقدمين في الفلسفة والعلم والدين واللغة، يحمل عددا غير متناه من المعاني والتأويلات، من خلال أثره وغيابه واختلافه في كل زمان ومكان وفي كل عصر من العصور، ولهذا قالت العرب “ خير الكلام ما قل ودل”. 

أو كما يقول الجاحظ: “ وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره”، ومن هنا تأتي مقولة النفري التي تدل على اتساع الرؤية في التكثيف والإيجاز: “ كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”. 

أما الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه فكان طموحه أن يقول في عشر جمل ما يقوله الآخرون في كتاب كامل، أو ما لا يستطيعه الآخرون في كتاب كامل. 

وهنا تحضرنا عبارة من التاريخ للإمام علي بن أبي طالب يختصر فيها كل ما قرأناه عن المذهب البنيوي، وعن التحليل النفسي عند فرويد ولاكان، يقول فيها: ..( ما أضْمَرَ أحدٌ شَيئاً، إلَّا ظَهَرَ في فلتات لسانه، وصفحات وجهه).