حسان قصي.. المضمون البيئي وانشطار الدلالة

ثقافة 2024/06/09
...

 د.جواد الزيدي


ينتمي النحات حسان قصي إلى المدرسة العراقية المعاصرة في النحت وإلى تجليات حداثته المحلية الخاصة التي رافقت بداية الحداثة الفنية في التشكيل العراقي، وإلى المعطف الذي خرجت منه أغلب التجارب النحتية من حيث الأسلوب والتجسيدات، والخامة البرونزية (المادة الأساسية) التي يتحايل عليها مرات عديدة من أجل الابتعاد عن عدم المواضعة، أوالمطابقة الشكلية والمضمونية والعمل على بنيات متاحة للجميع، بيد إنها تمتلك موجهاتها الذاتية لتحقيق انزياحها عن المألوف، إذ إنه يذهب إلى أعماق البيئة العراقية وتجلياتها الأولى، والمناخ المحلي، ليضفي على خطابه سمته المحلية ضمن مدارات الحداثة العراقية في الفن التي استلهمت رموز عراقية متعددة المرجعيات والبنى الدلالية للشكل الظاهري. 

فالوجود الشيئي لديه يتجسد ببيئة محددة ومتعينة لها أعرافها وقوانينها في الممارسة الحياتية 

هي (الأهوار). 

ولعل هذه المساحة الواسعة تتيح له الاستثمار الأمثل لتوظيف الطاقة الجمالية والتعبير الخالص الذي يتقصده ويحقق مراميه من خلال الشخوص والموضوعات والموجودات المحيطة بالانسان التي تشكل خارطة البناء الاجتماعي على صعيد الحياة اليومية، فضلاً عن كونها المرجع الأساس لحضارة وادي الرافدين الأُولى ومرجعياتها المؤثرة في الحياة المعاصرة.

يحاول حسان جاهداً في تسخير المضمون البيئي وتكريسه بشكل مُلفت ضمن فضاءات اشتغالات الحداثة، على الرغم من أن مادة (البرونز) قديمة التوظيف في منحوتات الحضارة العراقية بأطوارها المتعددة وصياغاتها المختلفة في الاتجاهات، فيهرع إلى المفردات الرئيسة التي تشكل ملامح البيئة والفضاء الاجتماعي (الإنسان والمشحوف والكرة) وغيرها في وجود شيئي يتعالق مع تلك البيئة التي يتعمد الولوج إلى بواطنها الخفية، والبحث عن المسكوت عنه ليس في تمثلها الظاهري، بل في حياتها الباطنية، محاولاً الجمع بين هذه الموجودات، أو العلامات الباثة للدلالة والتوصل إليها من خلال فجوات النص البصري، لتكوين موضوع يمكن أن يتجاوز حدود دلالة المفردة الواحدة، أو مرجعها المحدد، لكي تُصبح أكثر انفتاحاً عبر مساحات التأويل من خلال عملية الربط بينها، وتتماثل هيئات وملامح الشخوص وخصائصها البايلوجية مثل (الرجل والمرأة) قطبي معادلة الوجود، وبتأويل علاماتي حين يتم التقاء الدلالتين، فيظهر الزورق الأول وهو يحمل على هامته رجل بطريقة الاختزال، حيث تم تغريب بعض ملامح الشكل وحذف بعض أعضائه مثل الرأس والاكتفاء بالجذع أو باقي الجسد تيمناً بما ذهبت إليه نظريات التلقي التي تترك فجوات ونواقص على صعيد بنائية الشكل يُمكن ملؤها من خلال القراءة النقدية، ولكنه واضح الهيئة التعبيرية، بينما يحمل المشحوف الآخر إمرأة تم تجسيدها بطريقة تجريدية مختزلة تنم عن قوام المرأة الممشوق الذي صنعه عملها الدائم في حقول القصب والبردي داخل مياه المستنقعات والأهوار، وتحملها الأعباء اليومية بما يوازي الجهد الذي يبذله الرجل سواء كان ذلك داخل المنزل، أوخارجه. 

ويستند الزورق على كرة برونزية للإشارة إلى مفهوم التدوير الخفي، أو الكرة الأرضية التي يجوبها هذا الزورق من خلال استثمار الرمزية التي يبثها في عمله هذا عندما تم استعادة أهوار العراق إلى الذاكرة الجمعية، ووضعها ضمن لائحة التراث العالمي. 

وعندها يلتقي الزورقان وهما يشيران إلى دلالة اللقاء العاطفي بين (الرجل والمرأة) ومشاعر الحب التي تجمعهما والمعبرة عن ذلك الاحساس داخل أحضان الوطن.

وبالابتعاد أكثر عن مساحة المفردة وبُعدها التأويلي المباشر يلتقط قصي حروف الكتابة السومرية في طورها الأخير (المسماري) وتوظيف المماثلة مع الهيكل الانساني، ويخلق منها تكويناته النحتية التي تعود إلى منابع الرؤية نفسها، تلك التي تتجلى بطرق مختلفة من خلال اتجاهات الحرف نفسه (عمودي/ أفقي، مستقيم/ مقوس) وغيرها من الأشكال التي تترابط في ما بينها من أجل العناية في إنتاج الدلالة من خلال الموضوع المُشيد، محاولاً اللعب الحر على تلك المساحة المتاحة لإيجاد تلك الهيكلية وصياغة خطاب جمالي يعتمد المهمل والمهمش في بعض تجلياته، لكنه يرتبط حتماً بالمضمون الرئيس الذي بدأه، ممثلاً في العلاقة الإنسانية والمساواة بين الرجل والمرأة من دون الانحياز لأي منهما في ضوء الأهمية التي تجعل أحدهما يتفوق على الآخر على صعيد البناء الشكلي، بمعنى منحهما الأهمية نفسها في الشكل المرئي، بما يماثل الأهمية في الواقع الفعلي.  وعلى الرغم من مساحة الحرية التي يحفل الانسان داخل هذه الرقعة المكانية من العالم، إلا أن بعض الظروف الموضوعية المحيطة به أصبحت محددات لحركته ضمن قوانين وأعراف البنية الزمكانية، لذلك نجد أن أرجل الإنسان المفتوحة من أسفل القدم بوضع يتماثل مع أطراف راقصة البالية، إلا أنها مقيدة الحركة من الأعلى من خلال الروابط الحديدية التي تشبه المسامير وهي تخترق هذه المنطقة من الرجل.  وبهذا حاول الجمع بين الإنسان وما يحيط به للتعبير عن الموقف الأخلاقي والسياسي والاجتماعي الذي يعرقل المسير نحو الأهداف المرجوة في كثير من الأحيان.