النورماندي وعقدة العقل الغربي

قضايا عربية ودولية 2024/06/27
...

علي حسن الفواز



لا توجد قواعد ثابتة في السياسة، لا في صراعاتها، ولا في تعاطيها مع الظروف التي تتغير حسب حركة المصالح هنا أو هناك، لكن ما يجري في كثيرٍ من جغرافيات العالم يكشف عن خطورة الانزلاق خارج السياسة، والتصرّف بالمصالح على حساب المصالح ذاتها.

فما يجري في فلسطين ليس بعيداً عن ما يجري في جنوب لبنان، ولا حتى ما يجري في اليمن والسودان، وصولاً إلى ما يجري على الجبهات الروسية الأوكرانية، وحتى في الصراعات الجيوسياسية بين الغرب من جهة وبين روسيا والصين وكوريا الشمالية من جهة أخرى، فالغرب القديم لم يعد "فحلاً" وإطروحات الاستعمار والتبشير والاستشراق فقدت كثيراً من بريقها الانثربولوجي، فلم يعد منها سوى ظاهرة القوة والعسكرة وبراديغمات الاستهلاك وكرة القدم والموضة والسينما، حيث وجد العالم مابعد الكولينالي نفسه أمام استحقاقات جديدة، ودوافع تجعله أكثر بحثاً عن الذات والهوية والاستقلال، لكن الغرب ودوله المحاربة لم يشأ إلّا التذكير بروح العسكرة والقوة، فالاحتفال الأوروبي الأخير في الذكرى الثمانين لإنزال "النورماندي" تغافل عن الحضور الروسي، رغم أن تاريخ النورماندي يرتبط بقوة "الاتحاد السوفيتي" السابق في ذاكرة الانتصار في الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن كونه تم بإخراج سينمائي مثير، وبحضور شخصيات عالمية فنية وسياسية وأكاديمية، وكأنهم أرادوا وضع الزمن العسكري في علبة سينمائية وليس في التاريخ. 

صدى الاحتفال الاستعراضي تغافل أيضاً عن علاقة الحروب بالوجع الإنساني، فما يجري في غزة المذبوحة، وفي السودان المتشظي، وحتى في جبهات أوكرانيا الساخنة خارج "اللعبة" وداخل المخيال الذي مازال يراهن على صناعة القوة، وعلى الترويج لبطولة "الرجل الأبيض" في عنفه و" انتصاره" وتطهيره العرقي وفي تبشيره واستشراقه، بعيداً عن الفخاخ التي تعيش فيها شعوب، وتعاني منها أمم تعيش حرائق الحروب، وفضائح القتل الغربي والإرهابي، دون التفات لما يسمى بـ"حقوق الناس" في العيش، وفي الحياة وفي الاستقلال.

ما يحدث من جنون دولي قد يتجاوز "ذاكرة النورماندي" وقد يكون مدخلاً لحربٍ يمكن أن تحرق الأخضر الغربي واليابس الشرقي، وتضع العالم أمام أزمات وجودية وأخلاقية، وأمام عودة غير مسيطر عليها لثقافة "الغرب العنصري" الذي بات اليمين المتطرف يلوّح به بعد نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، وهو ما سيجعل من صناعة الفخاخ الثقافية والهوياتية أكثر تعبيراً عن أزمة العالم الجديد، وأزمة "العقل المنتصر" الذي جعل من إحياء احتفال "النورماندي" وكأنه احتفال بذاته المتعالية الموهومة بتاريخها العنصري.