النصبُ والتماثيل.. مشاهدُ تاريخية وآفاقٌ جمالية

ريبورتاج 2024/06/30
...

   رحيم رزاق الجبوري


ممّا لا شك فيه أن كل نصب أو تمثال، ينفذ بشكل أكاديمي وحرفي ودقيق من حيث الفكرة والثيمة والبناء، ويحاكي تطلعات الأمة وإرادتها وتضحياتها، سيبقى مثار فخر واعتزاز وقبول. ويمكن أن يتحول هذا العمل الفني إلى أيقونة خالدة، أو رمز للسلام والمحبة، أو عنوان للإخاء والنبل، أو سيرة عطرة للشجاعة والإيثار.

وقد يحمل أيضاً في مفهومه بُعداً معرفياً وثقافياً وفكرياً وثورياً، بمقدار ما يرمز إليه من قيمة فنية وجمالية واجتماعية وإنسانية، ما يجعله خالداً في ذاكرة الجماهير ومخيلتهم. لذلك تراهم يعتزون بهذه النصب والتماثيل المنتشرة في الساحات والأماكن والميادين العامة، ويعدونها واجهة البلاد الحضارية؛ لأنها تحمل مضامين راسخة، وقيماً وطنية عُليا، حتى لو كانت تحمل أفكاراً غريبة في الشكل والهيئة والبناء والتكوين، كونها تعكس جانباً فنياً وفلسفياً وجمالياً، وتحاكي ذائقتهم وتستفز عقولهم ووجدانهم وتجعلهم يقفون متأملين أمامها بحبٍّ وسموٍّ ورفعة.

توثيقٌ واستذكار
إلى ذلك يقول د. إبراهيم العلاف (أستاذ التاريخ الحديث المتمرس بجامعة الموصل): "يُقصد بالنصب التذكارية (مونيومنتا)  كل بناء أو موقع أو تمثال يشيّد لكي يخلّد حادثة أو شخصاً بقصد التذكير الوطني والقومي للشعوب بأحداث مؤلمة أو سعيدة. ويقيناً أن ما تجسده هذه الأعمال يظل قائماً كوسائل مهمة وضرورية لتنشيط وحث الذاكرة الإنسانية ليس بقصد الثأر والانتقام، وإنما لاتخاذ العبرة ومنع حدوث كوارث وفظائع متشابهة، ويبدو أن إقامة مثل هذه النصب والتماثيل قد يكون وسيلة من وسائل التفاهم الإنساني من الطرفين، وكما هو معروف فإن تكرار (نصب الجندي المجهول) في عدد من البلاد العربية والأجنبية ومنها العراق، هو احترام وتقدير لتضحيات الجنود الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل بلادهم وماتوا من دون أن تُعرَف قصصهم وهوياتهم".

رمزيَّة وطنيَّة
ويضيف: "فالنصب التذكارية ليست إلا تجسيداً لرمزية وطنية بهدف ترسيخها في نفوس الأجيال، وإعطاء الانطباع بديمومة النضال من أجل الحرية والتقدم والسلام، وإن كل الشعوب المحبة للسلام والتقدم في العالم تسعى إلى أن تضع في ساحاتها ومدنها وميادينها نصباً تذكارية تذكر بما مرت به تلك الشعوب في حياتها".

تجسيد الوعي
ويمضي العلاف، قائلاً: "إننا وضمن تاريخ العراق الحديث وجدنا اهتماماً بهذا الموضوع من خلال إقامة النصب والتماثيل، فيأتي تمثال الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية الحديثة في مقدمتها، فضلاً عن تمثال عبد المحسن السعدون رئيس وزراء العراق ببغداد، ونصب الحرية، وتمثال الخليل بن أحمد الفراهيدي في البصرة، وتمثال الحبيب بن أوس الطائي في الموصل، وإن هذه النصب والتماثيل نفذها فنانون كبار، منهم جواد سليم، ونداء كاظم، وفوزي إسماعيل، وإسماعيل فتاح الترك وبقياسات وأشكال ونسب علمية وفنية. وللأسف بعد الاحتلال الأميركي للعراق تعرضت الكثير من النصب والتماثيل إلى التدمير أو السرقة أو الإزاحة أو التغييب انطلاقاً من أجندات ذات دوافع مختلفة".

فوضى وعشوائية
ويختم العلاف، بالقول: "بعض الأعمال أُعيدت، ولكن ليس بالقيمة الفنية العالمية، كما أقيمت نصب وتماثيل اعتماداً على الاجتهاد أو الفطرية أو التبرع أو لعوامل أخرى، في بغداد أو في المحافظات أو حتى في المدن والقرى، ما وضعنا أمام نوع من الفوضى والعشوائية وعدم مراعاة للأبعاد الفنية والعلمية، وأقترح أن تكون هناك لجنة متخصصة في وزارة الثقافة تكون هي المسؤولة عن الموافقة على هذه الأعمال وعدم ترك ذلك للأفراد وأمزجتهم ورغباتهم؛ لأن هذه النصب والتماثيل نتاج وعي جمعي يشترك فيه كل أبناء البلد".  

هوية وتراث وتوثيق
بدوره يقول لطيف عبد سالم (كاتب وباحث): "لا مغالاة في القولِ أن وجودَ النصب والتماثيل، التي اعتادت بلديات المُدن على إقامتها في الميادينِ العامة والشوارع ومداخل المُدن، فضلاً عما احتل منها واجهات بعض المؤسسات الرسميَّة والأهليَّة، مرده بالأساس إلى أهميةِ هذه الصروح العمرانيَّة في الإسهامِ بعكس هوية المدينة وتراثها الفِكرِي والثقافِي والفنِي والعلمِي، إضافة إلى توثيقها ملامح من سير ونتاجات وجهاد، ما أنتخب من بعضِ الشخصيات الوطنيَّة؛ بوصفها من الوثائقِ الماديَّة التي من شأنها أن تجسدَ بمضامين ودلالات إنسانيَّة ووطنيَّة وتاريخيَّة جمالية، وأصالة موروث المُدن والبُلدان من خلالِ اسْتلهام مُبدعيها من الفنانين، عناصر الأحداث الرئيسة، وتوظيفها جمالياً وإبداعياً وقيمياً بمشاهد تصويريَّة؛ لتصل إلى فِكْرِ المُتلقِي، إلى جانبِ دورها في إضفاءِ لمسةٍ أنيقة على فضاءِ المدينة؛ لتبدو أكثر بهاءً وسحرًا".

بعدٌ فني وفلسفي
بينما يقول النحات ناثر إبراهيم: إن "تماثيل الأجداد التي كانت تنصب في المعابد والقصور والساحات بدلالتها الرمزية كانت تعبر عن العظمة والهيبة والتعبد وتشريع القوانين. فمثلاً (الثور المجنح) نرى الجانب الفلسفي فيه، حيث نُحِتَ الرأس بوجه بشري ذي لحية طويلة منمنم ومطرز بالنقوش الزخرفية، وذي قرون متعددة على الرأس؛ ترميزاً للقائد القوي الذي كان يحكم في تلك الحقبة الزمنية، إضافة إلى الأرجل الخمس كدلالة على الثبات والتميز والاختلاف عما هو متعارف بالخلق. ونرى الجانب الأسطوري، ممثلاً بالجناحين. وهنا الأجداد قد حققوا القيمة الجمالية والفنية المغايرة عن الواقعية والمخلدة لشخصية قائدهم الأسطورية، ويتضح ذلك في تمثال گلگامش الذي يحمل الأسد بيديه، وحمورابي، وأسد بابل. وبرأيي الشخصي، أقترح بأن نقوم بنحت هذه الآثار مجدداً، ووضعها في الساحات المناسبة كي يعرف الجيل الجديد من هم أجدادهم، خصوصاً أن المناهج التربوية قد رُفِعَت منها هذه المعلومات والصور. وكما هو معلوم بأن النصب والتماثيل الموجودة في العاصمة بغداد، غالبيتها من صنع (حقبة الرواد): كهرمانة، وأبو نواس، والرصافي، وعشتار، ونصب الشهيد وغيرها؛ جميعها تماثيل جميلة ومعبرة عن قصصها المخلدة للحدث ومحاكية للمتلقي البسيط والمثقف وباقي فئات الشعب؛ لكنَّ الأعمال ذات البعد الفلسفي نحتاج إلى إعادة صنعها لأهميتها الفنية وبعدها التاريخي، فضلاً عن ترسيخها في مخيلة الأجيال المقبلة".

مواكبة الحداثة
ويختم: "ألمسُ ضعفاً شديداً في الانتقاء والتنفيذ باختيار الموضوع والخامة المناسبة والمكان المحدد للعمل، فكلنا يعرف أن جميع الأعمال النحتية تخضع للمدارس الفنية كالواقعية، والانطباعية، والتكعيبية والرمزية والحداثوية. ومع التطور في الفن أرى أن تخضع النصب القادمة للرمزية الممزوجة بالحداثة وبتكوينات عمرانية هندسية مقاربة لتصميمات المهندسة زهاء حديد (رحمها الله) وذلك لمواكبة التطور مع الحدث العمراني الحاصل في دول العالم. وأنا لا أقصد بهذا، أن يكون التمثال بناء هندسياً؛ بل أن تكون قاعدة العمل بهذا الشكل ويعلوها التمثال بما يخلد، وحسب فكرته وموضوعه المعبر عن الحدث المنشود منه، والمدروس أكاديمياً مع الفضاء المحيط الذي يحدد ارتفاع وعرض العمل وخامة الإنجاز التقليدية وكذلك مساقط الظل والضوء".

فن النصب التذكاريَّة
الباحث في شؤون الفن والنحت جابر حجاب، يتحدث عن التشويه المستمر، في هذا المجال، إذ يقول: "في بيان بعنوان "تسع نقاط عن فن النصب التذكارية"، يذكر كل من المهندس المعماري خوسي لويس سيرت، والرسام فيرناند ليجير، والباحث النظري سيجفريد جيديون: (أن النصب التذكارية هي تعبير عن أسمى احتياجات الإنسان الثقافية. ولا بد لها من إشباع رغبة البشر الأزليَّة في تحويل قدراتهم الجماعية إلى رموز معبرة، فأكثر النصب حيوية هي تلك التي تجسد أحاسيس وتفكير هذه الطاقة الجماعية - أي الشعب)".

روحٌ جماعيَّة
ويضيف: "قبل شروع الفنان في العمل على نصب تذكاري تحت أي مسمى، عليه أن يضع في الحسبان الروح الجماعية لهذا النصب، وللأمانة هنا يجب ألا يفكر بروح الفرد مطلقاً إلا  بأسلوبه فقط، وهنا يجب أن تعمل (المؤسسة الراعية) ليس بالتدخل في حرية الفنان بل تحت تنظيم التنوع في الاختيار، وهذا ما لا نجده في إقامة النصب التذكارية حالياً، ففي مثل هذه المناسبات على (الدولة) أو المدينة، العمل على اتخاذ الطرق المعروفة والمعمول بها لاختيار النموذج الصحيح والأفضل بعيداً عن الضغط السياسي والأيديولوجي، وهذا ما لا نراه أيضاً عند المؤسسة الحكومية مطلقاً، بل هناك قرارات فردية في إقامة مثل هذه المشاريع، بل الأمر لا يخلو من الفساد الإداري والمالي وهذا واضح. حتى أصبحت النصب التذكارية والتماثيل تقام في الساحات بعيداً عن (وزارة الثقافة) ولجانها وأمرها صار مناطاً (بالمقاول) الذي تسلم مشروع التطوير، بحيث يكون له حرية اختيار الفنان، لملء الساحة بأي شيء كان من كتل معدنية رخيصة، وهذا بالطبع خاضع لما يتوفر من الرصد المالي القليل المتبقي باعتباره ثانوياً، وعليه فهو فرصة الفنان الضعيف وهم أصبحوا معروفين في الساحة، ومع كل هذا نضيف عليه ضعف الرقابة المسؤولة عن إقامة التماثيل والنصب إن توفرت بالفعل مثل هذه اللجان، وحتى وإن توفرت النوايا السليمة لا يمكن إنجازها لرداءة ذوق المسؤول ومستشاريه".

الفنان المقاول
ويختم حجاب مؤكداً بقوله: "وتحت هذه الأجواء العملية المريضة لا يمكن للفنان الحر والذي يحترم عمله ومنجزه الفني العمل، وهذا ما أراه بحيث تبتعد الأسماء المهمة من الفنانين عن هذه المشاريع، ومثل هذه الفترة والأجواء غير السليمة لا تنتج إلا أعمالاً عابرة لا ترسخ في الذاكرة، فمن فترة طويلة ونحن نشاهد (الفنان المقاول)، عاجزاً عن تقديم (الروح الجماعية) للنصب التذكارية، ولهذا فهو لا يتورع عن اظهار طائفيته البغيضة، وحتى أيديولوجيته السياسية، ومع ضعف مضمون العمل، نجده لا يقدم لنا شكلاً إبداعياً يشد البصر إليه، بل نجده يتعكز على صور مذهبية جاهزة وخطابات فئوية عنصرية يحاول من خلالها مخاطبة الأغبياء بروح الطائفة المظلومة والحقوق المغتصبة، والغريب في هذه المشاريع لا يذكر اسم الفنان إلا عند افتتاح العمل. ومع هذا الظرف أصبح الفنان مسؤولاً عن تشويه الذوق العام لا عن تربيته وترقيته، ولا أعفيه من انحطاط ذوق الجماهير الواضح، وهنا يحق القول أن المشاريع الفاسدة؛ لا تجذب إلا الفنان الرخيص. لذا فالنصب التذكارية لا يمكن أن تظهر إلا في الأوقات التي يسود فيها وعي موحد وثقافة موحدة. أما المراحل العابرة فلم يكن في مقدورها خلق أي نصب تذكارية دائمة".