شعريّة استدعاء الموت

ثقافة 2024/07/01
...

   باقر صاحب

تمنحنا قراءة المجموعة الأخيرة للشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين (1942-2022)، {خدوش على التاج} الصادرة في كانون الثاني 2023، عن دار الرافدين، أي بعد بضعة أشهرٍ عن رحيله، تمنحنا بعض مفاتيح تجربته الشعرية الكبيرة، التي استهلها بمجموعته الشعرية الأولى {قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا} الصادرة عام 1974، أي أن عمره آنذاك 34 عاماً، التي كان لها أصداء حسنة في الوسط الأدبي اللبناني والعربي، وكرّست شمس الدين كأحد شعراء التيار الجنوبي، الذي كان يضمّ شعراء مثل شوقي بزيع وجودت فخر الدين والياس لحود، كما كرّسته شاعراً غنائياً تراجيدياً، طالعاً من رحم معاناة أهل الجنوب، نتيجة العدوان الصهيوني المستمر على أراضيهم، وما يسبّب ذلك من خسائر في الأرواح والممتلكات، فضلا عن النزوح من بلداتهم الحدودية مع هذا الكيان.

شمس الدين الذي يعتبر شاعراً غزير الإنتاج، أصدر من أكثر من عشرين كتاباً، منها؛ "غيم لأحلام الملك المخلوع ، أناديك يا ملكي وحبيبي، الشوكة البنفسجية، طيور إلى الشمس المرّة، أما آن للرقص أن ينتهي، أميرال الطيور، ممالك عالية، النازلون على الريح، اليأس من الوردة، كرسي على الزبد"،  ظلّ في مشارف نهاية حياته، نتيجة تدهور حالته الصحية، يكتب يومياً، في تحدٍّ كبيرٍ لهذا التدهور، ونلاحظ ذلك في ديوانه الأخير" خدوش على التاج". هو ديوان قصائد نهاياته، كما وُسم على غلاف الديوان، بعد 48 عاماً من الإبداع الشعري المميّز، بوصفه آخر الشعراء المجدّدين في الكتابة على نمط قصيدة التفعيلة، فهو سليل تجارب روّاد هذا النمط، الذي بُشّر به في أرض الريادة الشعرية العربية المعاصرة، العراق، من قبل السيّاب والبيّاتي والملائكة، ومع انطلاق الحداثة الثانية المتمثّلة في ترسيخ قصيدة النثر على يد شعراء مثل أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، أي من أرض لبنان، بتبنّي مجلّة "شعر" لها. ظلَّ شمس الدين مرسّخاً على مدى سني تجربته الشعرية الكبيرة لقصيدة التفعيلة، وظلّ يدافع عنها، ذلك لأنّ الأوزان والقوافي أسلست له قيادها، بفعل سليقته الشعرية، التي صقلها بالمران والتأمّل والثقافة. في ديوانه ما قبل الأخير "آخر ما تركته البراري" مع عنوانٍ فرعي "سيرة صغيرة"، يذكر هيامه بالإيقاع، فيقول: "أنا مفتونٌ بالإيقاع، مريضٌ بالإيقاع، لأنَّ ما يصبُّ في السّمع من النظر يحرّك أوتار الملكوت، ويجعل كلَّ شيءٍ موسيقى، حتى الكارثة"، فأيُّ إيقاعٍ هذا، يحوّل الكارثة إلى موسيقى".

 وعلى ذلك فإنَّ شمس الدين نهل من تراث الفجيعة الكربلائي، وكان اعتزازه بانتمائه الجنوبي، ليس من باب التعصّب الجغرافي أو الطائفي، بل أنّ الجنوب، كان كينونته التي تتغلغل جذورها في وجدانه، وحفرتِ  الطبيعة الجنوبية مفرداتها في قاموسه الشعري العذب الوهّاج؛ الشجر والماء والطيور والسماء والقمر والحقول والسنابل، مازجاَ إيّاها بما نهل من تجارب أعلام الشعر العالمي بابلو نيرودا ولوكا وناظم حكمت.

يُوسم شمس الدين بأنه شاعر غنائي، تحتلّ" أناه" مركزاً دلالياً فيها، ولكنها لا تعلو إلى شأن النرجسية السلبية، فهي سرعان ما تتوحّد مع الناس والطبيعة. 

 في  نصوص" خدوش على التاج"، ترتسم لنا ذاتٌ فجائعية، متنبئةٌ بالرحيل الوشيك عن هذا العالم. نصوص الديوان المؤرَّخة غالبيتها قبيل أشهرٍ من رحيله عام 2022، تتضمّن مخاطبات رثاءٍ لمن رحلوا. وفي طريقه إلى الرحيل، تمثل أمام الشاعر  صور الموت المتتالي للأحبّة، بما  يجعل الدمع المذروف عليهم  كالنزيف الذي لا يتوقّف، في إحساسٍ متوهّجٍ بالحزن الجمعي أمام قسوة الموت وأحزان الرحيل. يسري هذا مع تعاظم  هاجس معايشة  الموت والتكيّف معه من دون رهبة: "كلما سال دمعٌ على الأرض قلنا جرى/ دمعنا/ أو تراءى دمٌ في المغيب على/ عنق الشمس/ صحنا أنظروا/ إنّه دمنا/ دعِ الآن أهل المقابر/ في صمتهم ينعمون/ وقلْ: إنّهم حين ماتوا/ استراحوا/ أفاقوا على الموت/ ثم استراحوا". ما يعني أنّ الموت راحةٌ كبرى للبشر المُعذّبين، واللحظات الأخيرة لا تعني سكرة الموت، بل قلْ صحوة الموت. فهل كان شمس الدين يدعو الموت أن يجيء، كي يرتاح من عذاباته؟ 

التمهيدات الدلالية لاستقبال الموت، تجعل الشاعر يهجس بأنّهُ حتى مفردات الطبيعة، كالرياح، مثلاً، محمّلةٌ بأشباح الموت حين يقول شمس الدين: "لعلَّ للرياح شغفاً/ لعلّ فيها روح من تباعدوا/ وأوغلوا/ رأيتها تدور حول منزلي/ كقطّةٍ سوداء/ تقول للأشجار عانقيني/ أنام ليلةً واحدةً وأرحل/ تقول للصغار هيّئوا أريكةً ومقعداً/ تقول هيّئوا قبراً صغيراً لي/ أبيت ليلةً وأرحل".

ومن مفردات الطبيعة إلى كائناتٍ حيّةٍ مثل الطيور، هاجس الموت يجعل شمس الدين مؤنسناً لتغريدها، كأنّما تحاور الشاعر وتسائله عن أزوف وقت الرحيل، وعن أسبابه: "يقف البلبل الأصفر المستريب/ ويسألني/ هل رأيت دماً في الغروب / وهل جاء وقت الرحيل؟".

 في الديوان خزينٌ تراجيدي، صوراً ودلالات، من استدعاء الرحيل أو تمنّيه للخلاص من  تداعيات مرضه ووحدته، مع معرفة الشاعر بأنّهُ كمن سيرحل إلى صحراء لا نهاية لها، إنّها الموت حقاً، مع دأب شمس الدين على ذكر مرموزاتٍ دينية، مثل "سدرة المنتهى"، حتى الشجر، لعظمة الأمر وأهواله، استعار له، خاصيّةً إنسانيّةً وهي البكاء: "خذوني بعيداً عن الأرض/ إنّي لأشعر أنّي مريض/ وأنّي كذئبٍ وحيدٍ وأعمى/ على وجه صحراء لا تنتهي/ على قاب قوسين من" سدرة المنتهى"/ رأيت الشجرْ/ واقفاً / وهو يبكي".

مُجمل الحصاد الشعري للراحل محمد علي شمس الدين، في تجربته التي امتدّت إلى ما يقارب أكثر من نصف قرن، تشخص أقانيمهُ أيضاً، في ديوانه الأخير، من ثراء هذه التجربة وغناها الوجداني والعرفاني، إلى التمسك بقصيدة التفعيلة مع احتواء الديوان لقصائد من الشعر العمودي، إلى شعريّة التهجّد إلى الله، واستدعاء  الموت بدون خوفٍ أو رهبةٍ منه.