الديمقراطيَّة التصارعيَّة

آراء 2024/07/02
...

مرتضى النداوي

تعد الديمقراطية التصارعيَّة من نظريات الفكر السياسي الفريدة، التي تؤكد أهمية الصراعات والخلافات الجوهرية داخل المجتمعات الديمقراطية ذات التعدد والتنوع. على عكس وجهات النظر التقليدية التي تركز على التوافق والوحدة، تعترف الديمقراطية التصارعيَّة بالإمكانات الإنتاجية للصراع السياسي والتعددية. إذ يعتبر المفكران (شانتال موف وإرنستو لاكلاو) من أبرز المفكرين الذين أسهموا بشكل كبير في تشكيل خطاب مختص بالمنحى التصارعي.
إذ تجادل (موف) بأن الصراعات السياسية لا مفر منها وهي ضرورية لديمقراطية نابضة بالحياة. وتعتقد أن المحاولات للقضاء على هذه الصراعات لصالح التوافق تقوض العملية الديمقراطية. بدلاً من ذلك، تؤمن (موف) بأن الديمقراطية يجب أن توفر إطارًا للتعبير والتفاوض حول المصالح والآراء المتنوعة. في عملها الأساسي «المفارقة الديمقراطية»، تنتقد (موف) التصور الليبرالي للديمقراطية، الذي يسعى غالبًا إلى تحييد الصراع السياسي. وتقدم مفهوم «التعددية التنافسية»، حيث تُعتبر السياسة الديمقراطية ساحة ديناميكية للتنافس بين الخصوم بدلاً من الأعداء. هذا التمييز حاسم: الخصوم يحترمون حق بعضهم البعض في الوجود والمشاركة في العملية السياسية، بينما يسعى الأعداء إلى تدمير بعضهم البعض.تدعو رؤية (موف) للديمقراطية التصارعيَّة إلى إنشاء مؤسسات وممارسات تُمكِّن من التعبير عن الهويات الاجتماعية والسياسية المختلفة. وتعتقد أن من خلال تبني الصراع والتنوع، يمكن للديمقراطيات أن تصبح أكثر شمولية واستجابة لاحتياجات مواطنيها. بينما يركز عمل (لاكلاو) على مفهوم الهيمنة والطرق التي تُبنى بها الهويات السياسية.
وفي «الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية» (1985)، يستكشف (لاكلاو) كيفية إنشاء الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية للسلطة المهيمنة والمحافظة عليها. يجادل بأن الهيمنة ليست هيكلًا ثابتًا أو متجانسًا، بل هي عملية مستمرة ومتغيرة من التفاوض والصراع. إذ إن، الهويات السياسية مرنة وتتغير باستمرار من خلال الممارسات الخطابية. في عصر ينماز بزيادة الاستقطاب السياسي وصعود الحركات الشعبوية، تقدم نظرية الديمقراطية التصارعيَّة مقترب يعده البعض عقلاني لمستقبل صيغ الحكم الديمقراطي. من خلال الاعتراف بعدم تجنب الصراع وتبني تنوع الهويات السياسية، توفر الديمقراطية التنافسية مسارًا نحو مؤسسات ديمقراطية أكثر مرونة واستجابة.
على الرغم من التأسيس الجيد للمسار التصارعي من اجل صياغة نمط يضبط ميكانيزم التفاعل داخل الفضاء الاجتماعي، إلا أن هنالك بعض الجوانب السلبية التي يمكن أن تذكيها الديمقراطية التصارعيَّة مثل الانسدادات السياسية نتيجة تصاعد الصراع بين الفرقاء وبالعودة إلى رأي (لاكلاو) حول الهويات التي ستصبح سائلة بنسبة معينة فإن التصارع، قد يكون مدخلا للفوضى ليس بالمعى الإناركي، الذي قد تحدد فيه بالبنية ممكنات الفعل السياسي، بل بالمعنى العبثي للفوضى Chaos.
 وإن أية نظرية ترتكز على جانبين إما القوة التفسيرية أو ترك الأمر للتطبيق والممارسة الفعليان لإثبات صحة الفروض، كما يذهب (ميلتون فريدمان) ولو نظرنا للتجربة العراقية بعد عام 2003 بوصفها إطار تفاعلي كاشف لمدى نجاعة التصارعيَّة، لوجدنا أن هنالك حالة صراع قائمة بين الأطراف منذ اللحظة الأولى خاصة بين المكونات الثلاث الرئيسة أنتجت صيغة للحكم، ونظرا لسيولة التوجهات السياسية “الهوية” كما يذهب (لاكلاو) لم ينجح أي اتجاه سياسي في السعي وراء الهيمنة بالمفهوم الـ(كرامشي)، بل زادت التصدعات حتى أصبحت هنالك انشقاقات داخل المكون الواحد وأمسى التصارع البيني غاية وليس اداة لحلحلة القضايا العالقة بفضل غياب أية ضابطة، والمثال الأقرب هو استمرار الصراع داخل المكون السني على مرشح يشغل رياسة البرلمان لثمانية أشر، ولعل الصراع سيستمر لأكثر من هذه المدة.
وبهذا يمكن القول إن الديمقراطية التصارعيَّة في ظل التجربة العراقية، ستكون أقرب إلى كونها أداة تزيد من استدامة التشظي منها إلى أداة تضبط إيقاع ومسارات التفاعلات البينية، وعليه يجب أن نجد تجربتنا الخاصة من ممارسات مفضية إلى تقاليد للحكم تتسق مع مواريثنا الخاصة في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لتكون مسارا لتخليق التزام في مقاربة الفعل الاجتماعي والسياسي. والمقصود بالالتزام بهذا المعنى هو إيجاد أعراف تضبط الميكانزمات، والحق أن ما يزهو على عشرين عاما من الاختلالات حالة صحية (طبيعي)، والشواهد التاريخية تؤكد أن أكبر ديمقراطيات اليوم مرت بالكثير من القلاقل والصراعات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، ففرنسا مرت خلال مدة تحكم “اليعاقبة” وما تلاها من عقد في سيرورة الديمقراطية إلى الحد، الذي جعل الكثيرين يصفون مرحلة حكم (روبسبير) بعصر الإرهاب.