عسكرتاريَّة إسرائيل.. غطرسة عنصريَّة

ثقافة 2024/07/02
...

 ترجمة وتقديم: د. نادية هناوي


يتخذ ادوارد سعيد من المحاكاة الساخرة أسلوبا بلاغيا يتهكم فيه من المنطق الأهوج الذي تتبعه الصهيونية في تسويف الحقائق وطمس الوقائع والافتراء على الرأي العام العالمي، مستلبة من خلال ذلك المزيد من أراضي الشعب الفلسطيني ومهيمنة على مقدراته. وكلما تقدمنا في قراءة كتاب {مسألة فلسطين} وجدنا أن استعمال ادوارد سعيد للمحاكاة الساخرة يتضاعف أكثر.

والسبب ما يقدمه من معطيات موثقة ودقيقة، فيها تتجلى أباطيل الصهاينة سواء في ادعاءاتهم العنصرية غير الانسانية أو سيناريوهاتهم المفبركة والمغلوطة أو تدابيرهم الخبيثة المحبوكة بدهاء ومكر كبيرين.
وفي القسم الاخير من الفصل الثاني من الكتاب أعلاه، يكشف ادوارد سعيد عن كم كبير من هذا التزييف، عارضا إياه بطريقة متهكمة بدءا من الحكم على أراضي الفلسطينيين بأنها أملاك غائبين، ومرورا بأكاذيب أوري أفنيري وتنطعات يسرائيل كنيغ الباطلة، وانتهاء بتزوير شهادات عرب إسرائيل حول نظام الفصل العنصري، يقول سعيد: (بينما يحق لليهودي الحصول على الحد الأقصى، فإن غير اليهودي يحصل على الحد الأدنى. ومن أصل قوة العمل الإجمالية البالغة 80 ألف عامل عربي، يعمل 60 ألفا منهم في مؤسسات يهودية. ينظر هؤلاء العمال إلى مدنهم وقراهم مجرد أماكن للإقامة. "صناعتهم" الوحيدة المزدهرة هي توفير قوى عاملة. القوة البشرية بالنسبة إلى غير اليهودي في إسرائيل هي بلا أهمية سياسية ولا قاعدة إقليمية او استمرارية ثقافية؛ وإذا تجاسر على البقاء بعد قيام الدولة اليهودية عام 1948، فلا ضمان لبقائه هناك إلا بسبل عيش ضئيلة، بل يكاد يكون عاجزًا باستثناء إعادة إنتاج نفسه وبؤسه إلى ما لا نهاية.
كان المواطنون العرب في إسرائيل إلى عام 1966 محكومين من قبل سلطة عسكرية موجودة حصريًا للهيمنة على كل جانب من جوانب الحياة العربية وثنيها والتلاعب بها وإرهابها والعبث بها منذ الولادة حتى الموت تقريبًا.
أما بعد عام 1966، فلم يكن الوضع أفضل على الاطلاق، وهو ما تشهد عليه سلسلة لا يمكن وقفها من أعمال الشغب والمظاهرات الشعبية؛ وتم استخدام أنظمة الدفاع في حالات الطوارئ لمصادرة آلاف الدونمات من الأراضي العربية، سواء عن طريق الإعلان عن أن الممتلكات العربية موجودة في منطقة أمنية أو عن طريق الحكم على الأراضي بأنها أملاك غائبين (حتى لو كان الغائبون، في كثير من الحالات، حاضرين فإنه خيال قانوني بدقة كافكاوية). يستطيع أي فلسطيني أن يخبرك ماذا يعني قانون أملاك الغائبين لعام 1950، وقانون الاستيلاء على الأراضي لعام 1953، وقانون مصادرة الممتلكات زمن الطوارئ (1949)، وقانون التقادم لعام 1958.
علاوة على ذلك، يُمنع العرب ولا يزالون محظورين من السفر بحرية أو استئجار أرض من اليهود أو التحدث أو التحريض أو التعلم بحرية. وكانت هناك حالات يُفرض فيها حظر التجول فجأة على القرى، وبعد ذلك، حين يكون من المستحيل على القرويين معرفة حظر التجول، يتم إطلاق النار عليهم من دون محاكمة. ووقعت الحادثة الأكثر وحشية في كفر قاسم في أكتوبر 1956، حيث أطلق حرس الحدود النار على تسعة وأربعين فلاحًا أعزل. وحرس الحدود قسم فعال بشكل خاص في الجيش الإسرائيلي. وبعد قدر معين من الفضيحة، تم تقديم الضابط المسؤول عن العملية للمحاكمة، وأدين، ثم عوقب بغرامة قدرها قرش واحد (أقل من سنت واحد).
لقد فرضت إسرائيل منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 سيطرة إضافية على ما يقرب من مليون مواطن عربي. ولم يكن سجلها سابقا أفضل من ذلك، ولكن هذا لم يكن مفاجئاً. والواقع أن أفضل واجهة لما يحدث في الأراضي المحتلة هي شهادة عرب إسرائيل الذين عانوا من وحشية القوانين الإسرائيلية قبل عام 1967. انظر على سبيل المثال كتاب صبري جريس "العرب في إسرائيل" أو كتاب فوزي الأسمر "أن تكون عربياً في إسرائيل" أو كتاب إيليا زريق "الفلسطينيون في إسرائيل: دراسة في الاستعمار الداخلي". كان الهدف السياسي لإسرائيل هو ابقاء العرب مسالمين غير قادرين على منعها من الاستمرار في هيمنتها عليهم.
وكلما اكتسب زعيم قومي القليل من المكانة، يتم ترحيله أو سجنه (بدون محاكمة)، أو يختفي. ولقد نسفت بيوت العرب (حوالي 17 ألفاً) من قبل الجيش ليكونوا أمثلة على (المجرمين) القوميين كما كانت الرقابة مشددة على كل ما يكتبه العرب عنهم؛ وكل عربي يخضع مباشرة للأنظمة العسكرية.
 ومن أجل اخفاء القمع والحيلولة دون تعكير طمأنينة (الوعي) الإسرائيلي، نشأت مجموعة من الخبراء العرب - اليهود الإسرائيليين الذين يفهمون "العقلية" العربية.
كتب أحدهم، أمنون لين، في عام 1968 أن ""الشعب وثق بنا وأعطانا حرية العمل التي لم تتمتع بها أية مجموعة أخرى في البلاد في أي مجال وبمرور الوقت، حصلنا على مكانة فريدة في الدولة كخبراء، ولا يجرؤ أحد على تحدي آرائنا أو أفعالنا. نحن ممثلون في كل دائرة حكومية، في الهستدروت وفي الأحزاب السياسية. ولكل إدارة ومكتب "مستعربون" هم وحدهم من ينوب عن وزيرهم من العرب".
تفسر شبه الحكومة هذه وتحكم العرب خلف واجهة من الخبرة "المتمايزة" فعندما يرغب الليبراليون الزائرون، كما أشرت في الفصل الأول، في التعرف إلى "العرب"، يتم إعطاؤهم صورة مزوقة مناسبة. وفي الوقت نفسه، بطبيعة الحال، تتضاعف المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة (أكثر من تسعين منها منذ عام 1967)؛ وبعد هذا العام كان النمط المتبع مماشيا منطق الاستعمار، مما أدى إلى نزوح العرب مجددا، تماما كذاك الذي كان قبل عام 1948.
هناك الصهيونية وإسرائيل لليهود، وهناك الصهيونية وإسرائيل لغير اليهود. لقد رسمت الصهيونية خطاً حاداً بين اليهودي وغير اليهودي؛ وقامت إسرائيل ببناء نظام كامل لفصل بعضهم عن بعض، بما في ذلك الكيبوتسات التي تحظى بـ (إعجاب كبير)، (لكنها تتمتع بنظام الفصل العنصري)، ولم ينضم إليها أي عربي على الإطلاق. وفي الواقع، فإن العرب تحكمهم حكومة منفصلة تقوم على استحالة الحكم المتساوي لكل من اليهود وغير اليهود.
انطلاقا من هذه الفكرة الجذرية، أصبح من الطبيعي لأرخبيل الغولاغ Gulag العربي أن يطور حياته الخاصة، وأن يخلق دقته الخاصة، وتفاصيله الخاصة. وقد عبر أوري أفنيري عن الأمر بهذه الطريقة أمام الكنيست: "" حكومة كاملة... أنشئت في الوسط العربي، حكومة سرية لا يقرها القانون أعضاؤها وأساليبهم غير معروفة لأحد.
وعملاؤها منتشرون بين وزارات الحكومة، من إدارة أراضي إسرائيل إلى وزارة التربية والتعليم ووزارة الأديان. ويتخذ قرارات مصيرية تمس حياة [العرب] في أماكن مجهولة دون وثائق ويتواصل معهم في محادثات سرية أو عبر الهاتف. هذه هي الطريقة التي يتم بها اتخاذ القرارات بشأن من سيذهب إلى ندوة المعلمين أو من سيحصل على جرار أو من سيتم تعيينه في منصب حكومي، أو من سيحصل على إعانات مالية، أو من يُنتخب للكنيست، أو من سيتم انتخابه للمجلس المحلي -إن وجد- وهكذا لألف سبب وسبب"".
ولكن من وقت لآخر كانت هناك رؤى غير مقصودة حول الحكومة بالنسبة إلى العرب في إسرائيل مما يتم تقديمه إلى المراقبين اليقظين. المثال الأكثر صراحة هو التقرير السري الذي أعده يسرائيل كنيغ، مفوض الوزارة في المنطقة الشمالية (الجليل)، والذي كتبه لرئيس الوزراء آنذاك إسحاق رابين حول "التعامل مع العرب في إسرائيل". (تم تسريب النص الكامل لاحقًا إلى الهمشمر  Al-Hamishmarفي 7 سبتمبر 1976). وتقشعر الأبدان لمجرد قراءة محتوياته، لكنها أيضا تفي بالغرض في تأكيد غطرسة الصهيونية تجاه ضحاياها من غير اليهود.
يعترف كنيغ بصراحة أن العرب يمثلون مشكلة ديموغرافية لأنهم على عكس اليهود الذين نسبة الزيادة الطبيعية لديهم تبلغ 1.5 في المائة سنويًا في حين العرب يتزايدون بمعدل سنوي قدره 5.9 في المائة. علاوة على ذلك، يفترض إبقاء العرب في مرتبة أدنى في السياسة الوطنية، لأنهم قد يثيرون بشكل طبيعي توترات قومية. لكن الشيء الرئيس هو كيفية التأكد من تقليص واحتواء وإضعاف الكثافة السكانية العربية في مناطق مثل الجليل، وبالتالي يضعف احتمال حدوث مشاكل.
ولذلك، اقترح أن من الضروري"" توسيع وتعميق الاستيطان اليهودي في المناطق التي يكون فيها تواجد السكان العرب بارزا، وعددهم يكون أكبر بكثير من السكان اليهود؛ مع دراسة إمكانية تخفيف التجمعات السكانية العربية الحالية. ويجب إيلاء اهتمام خاص للمناطق الحدودية في شمال غرب البلاد ومنطقة الناصرة. وينبغي أن ينحرف النهج وضرورة الأداء عن الروتين الذي تم اعتماده حتى الآن. في الوقت نفسه، ينبغي أن يطبق قانون الدولة للحد من "فتح أرض جديدة" من قبل المستوطنات العربية في مناطق مختلفة من البلاد. ""
إن الاستراتيجية شبه العسكرية لهذه الاقتراحات قريبة جدًا من السطح. ما يجب أن نلاحظه أيضًا هو وجهة نظر كينغ التي لا تقبل الجدل بشأن الضرورات الصهيونية التي يحاول تنفيذها. لا شيء في تقريره يشير إلى أية مخاوف بشأن النهاية العرقية الواضحة التي تروج لها اقتراحاته؛ كما أنه لا يشك في أن ما يقوله يتوافق تمامًا مع تاريخ السياسة الصهيونية تجاه هؤلاء غير اليهود الذين كان حظهم سيئًا في التواجد في الأراضي اليهودية، وإن كان ذلك بأعداد كبيرة وهو أمر مثير للقلق. ويمضي في القول " منطقيا أي زعيم عربي يسبب مشاكل، يجب استبداله، وأن من الواجب على الحكومة أن تبدأ في "إنشاء" } الكلمة لها نبرة لاهوتية تقريبا تتماشى إلى حد كبير مع السياسة اليهودية تجاه العرب{ "شخصيات [عربية] جديدة ذات مستوى فكري عالٍ، شخصيات منصفة وجذابة"، ومقبولة تمامًا لدى حكام إسرائيل.
علاوة على ذلك، تساهم في "تبديد" جهود الزعماء القوميين القلقين، الذين يبدو أن خطيئتهم الرئيسة هي أنهم يشجعون السكان الأصليين الآخرين على الغضب من دونيتهم القسرية، وينبغي على الحكومة تشكيل "فريق خاص لفحص العادات الشخصية للقادة وغيرهم من الأشخاص السلبيين ويجب أن تكون هذه المعلومات متاحة للناخبين".
ولم يكتف كنيغ بـ "إضعاف" المواطنين العرب في إسرائيل والتلاعب بهم، بل استمر في اقتراح طرق "لتحييدهم" و"إعاقتهم" اقتصاديًا. ومع ذلك، فإن القليل جدًا من هذا يمكن أن يكون فعالاً، ما لم تكن هناك طريقة ما للسيطرة بطريقة أو بأخرى على "عدد كبير من السكان المثقفين (المحبطين) الذين أجبرتهم حاجة عقلية على البحث عن الراحة. والتعبيرات عن هذا موجهة ضد المؤسسة الإسرائيلية للدولة". ويبدو أن كنيغ قد فعل ذلك. أعتقد أن من الطبيعي أن يظل العرب محبطين، لأنه عند قراءة اقتراحاته ليس هناك الكثير مما يذكرنا بأن العرب شعب، أو أن تقريره لم يكتب عن يهود الحقبة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وانما كُتب في عام 1967 من قبل يهودي عن مواطنيه العرب.
تأتي الضربة الرئيسية لخطة كنيغ عندما يناقش الهندسة الاجتماعية المطلوبة لاستخدام "الشخصية المشرقية" العربية المتخلفة ضد نفسها، وبما أن العرب في إسرائيل هم مجتمع محروم، فيجب تعزيز هذا الواقع على النحو الاتي:
أ) يجب أن تكون معايير استقبال طلاب الجامعات العربية هي ذاتها معايير استقبال الطلاب اليهود، ويجب أن ينطبق ذلك أيضًا على المنح الدراسية. إن التنفيذ الدقيق لهذه القواعد سوف يؤدي إلى انتقاء طبيعي (المصطلح الدارويني يتحدث عن نفسه ببلاغة) وسيقلل بشكل كبير من عدد الطلاب العرب. وبناء على ذلك، فإن عدد الخريجين من ذوي المستوى المنخفض سينخفض أيضا، وهذا من شأنه أن يسهل استيعابهم في العمل بعد الدراسة ( والخطة هنا هي التأكد من أنه سيتم استيعاب الشباب العربي بسهولة في وظائف وضيعة، وبالتالي ضمان اضعافهم فكريا).
ب) تشجيع الطلاب على التوجه نحو المهن التقنية ودراسة العلوم الفيزيائية والطبيعية. لا تتيح هذه الدراسات لهم وقتًا كافيا للانخراط في المسائل القومية كما أن معدل الرسوب أعلى. (أفكار كنيغ حول عدم التوافق بين العلم والقيم الإنسانية تتفوق على سي بي سنو). من المؤكد أن هذا مثال شرير لاستخدام العلم كعقاب سياسي؛ وهو أمر جديد حتى على تاريخ الاستعمار.
ج) تسهيل البعثات الدراسية إلى الخارج مع جعل العودة والتوظيف أكثر صعوبة - وهذه السياسة ملائمة لتشجيع هجرتهم.
د) اتخاذ اجراءات صارمة على المستويات كافة في مختلف الكليات والجامعات ضد الطلاب المحرضين.
هـ) القيام بالاستعدادات وتهيئة إمكانيات استيعاب الجزء الأكبر من الخريجين حسب مؤهلاتهم. ويمكن تنفيذ هذه السياسة بفضل الوقت المتاح (عدد من السنوات) الذي يتيح للسلطات أن ترسم  خلاله خطواتها.
لو أن مثل هذه الأفكار صاغها الستالينيون أو الاشتراكيون الأورويليون أو القوميون العرب، فإن الصرخة الليبرالية كانت ستصم الآذان. ومع ذلك، تبدو اقتراحات كنيغ مبررة عالميًا بمنطق الأحداث التي تضع مجموعة صغيرة من السكان الغربيين (الشجعان) من اليهود ضد مجموعة كبيرة من السكان العرب غير (المتبلورين والمنتشرين والمدمرين).
لا شيء في تقرير كنيغ يتعارض مع الازدواج الأساس في الصهيونية، أي الإحسان تجاه اليهود والعداء الأساس ولكن الأبوي تجاه العرب.
علاوة على ذلك، فإن كنيغ نفسه يكتب من وجهة نظر أيديولوجي أو مُنظِّر، وكذلك من موقع السلطة والقوة داخل المجتمع الإسرائيلي. وبصفته حاكمًا للعرب في إسرائيل، يعبر كنيغ عن اهتمام رسمي برفاهية اليهود فيحافظ على مصالحهم ويحميها بينما يفرض هيمنة أبوية وإدارية على السكان الأصليين (الأدنى).
ومن ثم فإن منصبه (مقدس) من قبل مؤسسات الدولة اليهودية. وهو يفكر من حيث الحد الأقصى لمستقبل اليهود والحد الأدنى لمستقبل غير اليهود. وقد وردت كل هذه المفاهيم بشكل كامل في الفقرة الاتية من تقريره:" إن تطبيق القانون في دولة ذات مجتمع نام مثل مجتمع إسرائيل هو مشكلة يجب حلها بمرونة وعناية وكثير من الحكمة. ولكن في الوقت نفسه، يجب على السلطة الإدارية والتنفيذية في الوسط العربي أن تكون على علم بوجود القانون وكيفية تطبيقه كي تتجنب عوامل التآكل ").