الابتكار في المسرح بين الاستنباط والتجديد

ثقافة 2024/07/04
...

  د. علاء كريم

الابتكار هو القدرة على تطوير فكرة أو عمل محدد عبر أسلوب مغاير، أو بطريقة تنتج مفردات ذات جدوى، يمكن تسويقها بشكل منظم، بالتالي يخلق الابتكار صورة ورؤى تلامس الإبداع البشري، وتعمل على تطوير النماذج والتجارب بشكل جديد.
وبما أن المسرح هو شكل من أشكال الفن القديم الذي تطور مع الزمن، والذي واجه العديد من التحديات في العصر الحديث، منها ما يخص انخفاض حضور الجمهور وارتفاع التكاليف، والمنافسة غير المهنية، وقلة التنوع والابتكار. وتتلخص هذه الاشكالية في موضوعة الابتكار بالسؤال التالي، كيف يمكن للمسرح أن يتقدم ويزدهر مع مرور الزمن؟ هنا قد تكمن الإجابة عبر توضيح ما تقدمه مختبرات الابتكار، وما تعتمده من أفكار وأساليب وتقنيات لخلق تجارب مسرحية جديدة ومؤثرة. ومختبرات الابتكار مجالاً لتطبيق العلوم بكافة تنوعها، ويمكن للمشاركين فيها اختبار افتراضاتهم، والتعلم من أخطائهم، وتكرار حلولهم، المهم تكون عندهم رؤية واضحة ومشتركة، وأن يمتلكوا مهارات ومعارف في عملية الابتكار، ليحققوا بوساطاتها معالجات منهجية مرنة تعتمد أساليب بسيطة وسريعة الاستجابة. تساعد العاملين في المسرح على خلق أشكال وتنسيقات جديدة يمكن لها أن تجذب الجمهور عبر معالجة القضايا الاجتماعية وصناعة وعي جديد.
لا يقتصر الابتكار على التجديد، بل يمكن من خلاله تسويق العمل المسرحي وفق رؤى علمية لينتفع منه المجتمع، وهناك أنواع عديدة من الابتكار، منها: الابتكارات الخارقة وهي المعنية بالتكنولوجيا التي تغيّر من قواعد اللعبة المسرحية بما يتلاءم مع فضاء هذا الفن. كما أن هناك الابتكار التدريجي، الذي يعتمد المتغيرات الهامشية التي تُضاف إلى التكنولوجيا القائمة. وايضا الابتكارات المُقتصِدة، التي تعتمد نهجاً ابتكارياً يقتضي انشاء قيمة اجتماعية لتلبيةً حاجات المجتمع وبشكل جمالي ومعرفي. كما يساهم الابتكار بنمو المجتمعات وتحسين اذواقهم والتكيّف مع البيئات بمختلف انواعها.
وفي سياق هذا الموضوع يؤكد الفنان سامي عبد الحميد على أن هناك ثلاثة مصطلحات ترتبط مع بعضها في المعنى هي "الاستنباط والابتكار، والاختراع"، وتعطي كلها معنى التحديث أو التجديد في العمل المسرحي، وعليه،  تتجسد الابتكارات عبر الاستنباطات وما تفرضه ضرورات المتغيرات الحياتية، فضلاً إلى شعور العاملين في المسرح أحياناً تجاه التكرار الذي يقود إلى الملل. وكما اسلفنا سابقاً بأن للابتكار ضرورات تتلخص في العمل الجماعي، اي مشاركة جميع أفراد المجموعة المنتجة للعمل المسرحي وفي مراحل العملية الإبداعية ابتداءً من اختيار وتفهم النص المسرحي ومروراً بالتمارين الأدائية للمثل ووصولا إلى تقديم العرض. وفي هذا الجانب حدد الممثل الفرنسي جاك لوكوك في كتابه "أساليب الابتكار"، الكيفيات التي مكنته من الوصول إلى الأساليب المسرحية التي يعمل عليها، فيوضح ثلاثة أصناف، منها: "الأداء" الذي يعتمد طبيعة السلوك الإنساني في اداء الممثل، وبيان طبيعة السلوك الإنساني، ومدى تفاعل جسد الممثل معها، فضلاً عن الدوافع الدرامية للفكرة الأساسية. ومن الأصناف ايضا "التقنية" الأنسب لكل عمل مسرحي يقدم من أجل اقناع المتلقي، وتوضيح الغرض من العرض المسرحي وفق ما تنتجه هذه الأساليب ومدى تأثيراتها. فضلا عن "النصوص" التي تعد من أصناف أساليب الابتكار المهمة، فهناك نصوص بإمكانها أن تدعم الأفكار وتبين اساليبها في الأنواع المسرحية.
يتطلع المسرح المحلي والعربي وأيضا العالمي، إلى مقاربة السائد والمتوارث، وتجاوز كل ما هو مألوف، في سبيل ايجاد ديناميكية جديدة وبما يستحقه فن المسرح، خصوصاً وأن المسرح في حد ذاته مساحة للتجريب، والتجريب ممارسة تتيح لكاتب النص والمخرج لابتكار معانٍ كثيرة شأنها شأن التجديدات التي ظهرت مطلع القرن العشرين، وعبر تعدد اشكال التيارات واتجاهاتها وما تهدف إليه من ابتكارات في الأشكال التعبيرية الجديدة على خشبة المسرح، سواء من جانب النص المسرحي أو بوساطة هيكلية العرض والأداء المرتبط بتقنيات المسرح النصية والاخراجية المعاصرة، وعليه، توجد رؤية عالمية تعمل على تغيير كل ما هو تقليدي، وتفعيل النظريات الحديثة التي من شأنها بناء فكر جديد يمكن من خلاله اكتشاف أساليب وتجارب مسرحية جديدة، تعمل وفق أسس أكاديمية ومنهجية دقيقة.
لم يكن المسرحيون في العراق بعيدين عن ظاهرة الابتكار والتي بدأت منذ اوائل الخمسينيات حين رفضت مجموعة من المسرحيين الأعمال المسرحية التقليدية، وسعت إلى البحث عن ايجاد بدائل لتغيير واقع وطبيعة هذا الفن، بعيداً عن الاستنساخ العالمي، لأن المسرح في العراق يتميز بتركيب بنيته وطبيعة بيئته، وأيضا الجمهور العراقي المثقف يميز التقليد من الخلق الابداعي الحقيقي، ويمكن له أن يشخص الابتكار الذي يبنى وفق اعراف مسرحية ومفاهيم راسخة في فكر وذائقة الجمهور العراقي، لأن "الابتكار" اليوم يعد ظاهرة عالمية وعاملاً مهماً في الصراع الكوني من اجل تحقيق الاستقرار النفسي والذهني وبيان حقوق الإنسان. ولو أخذنا نماذج للعروض المبتكرة، سنتوقف عند مرحلة مهمة من المسرح العراقي وأعمال المصمم الفنان الراحل كاظم حيدر، الذي يعد من المبتكرين المجددين في حقبة زمنية مهمة من تاريخ المسرح العراقي، لا يستنسخ ولا يقلد بل يقدم بدائل لتصاميمه، ويختار المخرج الأصلح والأفضل لعمله، ولكونه يجمع بين الكلاسيك والحديث، والتقليدي والمعاصر، ولا يخضع لأوامر المخرج فيصبح مصمماً لا منفذاً. وهنا لا بد أن أشير إلى أن الذي يريد أن يصبح مصمماً مبدعاً للمناظر والأزياء المسرحية، عليه التحلي بصفات معينة، منها: امتلاك الحس المعماري، والرؤية التشكيلية والممكنات الدرامية، حتى يلامس مفهوم الابتكار، والمصمم في العرض المسرحي هو المبدع الثالث في العمل الفني بعد المؤلف والمخرج.
صمم حيدر مجموعة من مناظر العروض المسرحية التي أخرجها الراحل سامي عبد الحميد، استخدم فيها أسلوب الزرع الحر لمفردات ديكورية يمكن تغييرها بسهولة، وانزاحت تلك المفردات للمسات معمارية مختلفة.
ومن المسرحيات التي حاول فيها المصمم أن يعطي الدقة لمناظر مبتكرة. شكسبير "تاجر البندقية" للفرقة القومية للتمثيل،  "انتيغونا" عام 1965 للفرقة القومية للتمثيل، و"الحيوانات الزجاجية" لتينيسي وليامز، و"النسر له رأسان" لجان كوكتو. ومع فرقة المسرح الحديث صمم مسرحية "النخلة والجيران"، وأيضا "المفتاح" ليوسف العاني، و"ثورة الزنج" مستخدما فيها الرماح كمفردة ديكوريه تتنوع في تشكيلاتها وفقاً لتنوع الأحداث، كما استخدم لوحات رسمها تبين تقطيع الأرض الفلسطينية إلى أجزاء بسبب الاحتلال
الاسرائيلي.