الفضاء.. الحيّز.. المكان

ثقافة 2024/07/04
...

 كمال عبد الرحمن

غالبا ما نجد نوعاً من الاشتباك والتداخل في استعمال مصطلحات {الفضاء}، و{الحيّز}، و{المكان}، فهل يمثلون شيئا واحدا مع اختلاف التسميات، أم لكل منهم معناه ودلالاته ووظيفته، وما هو الأوسع الذي يضم بين دفتيه المصطلحين الآخرين؟.
إن كل عنصر من عناصر السرد، أهمية خاصة تمنح المصداقية، والفضاء كغيره من العناصر مهم على المستوى البنائي، خاصة عندما يكون غاية النص ومنتهاه، فيصبح حينئذ هو المعنى ذاته الذي يؤدي لاكتمال محددات الحركة السردية، عندما يترابط مع بقية العناصر الأخرى من حدث وزمن وشخصية، فيصبح كل عنصر بغياب الفضاء فاقدا للمصداقية على المستوى العملي ما لم يقم علاقة معه. فالمحكي إذن يحتاج لمكان وقوع الأحداث ولشخصية تركن إليه، مثلما يحتاج الى خطة لتزامنها. ولا يحدد الفضاء بمكان وزمان وشخصيات وحسب، ولكنه يشمل تفاصيل أخرى.  
يشكل الفضاء مكونا مهما من مكونات السرد والأجناس الأدبية الأخرى، وقد يعد أهم مكون في القصة "إن لم يكن لُبّ السرد نفسه وبؤرته المهمة، إذ يدخل ضمن قائمة المصطلحات الجديدة الشائكة التي دارت حولها نقاشات متعددة، وتضاربت الآراء حول تحديد مدلولها بدقة". وانطلاقا من هذه المفاهيم، يتبين أن أغلب القواميس المعجمية تذهب إلى أن الفضاء هو مكان واسع يجمع الأشياء ويحضن حركة الكائنات.
ويشكل الفضاء مصطلحا شائكا جدليا اختلافيا، ولكنه مهم للنص السردي، وكأنه يمثل قيمة الروح للجسد، يقول شارل غريفل إن "الفضاء الروائي هو الذي يكتب القصة حتى قبل أن تسطرها يد المؤلف". ويعد مصطلح الفضاء في السرد، من الموضوعات التي ناقشها العديد من النقاد والباحثين المعاصرين، ومن تلكم المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بمفهوم الفضاء ما ذكره الناقد حسن بحراوي في قوله "والفضاء في السرد ينشأ من خلال وجهات نظر متعددة، لأنه يعاش على عدة مستويات، فكل لغة لها صفات خاصة لتحديد المكان غرفة ــ حي ــ منزل، ثم من طرف الشخصيات التي  يحتويها المكان".  
وفرق الناقد حميد لحمداني بين "الفضاء" و"المكان" وعدّ الفضاء "أوسع وأشمل من المكان"، وقسم الفضاء إلى "الجغرافي، النصي، الدلالي، السردي الروائي" ويقودنا مصطلح الفضاء إلى الحديث عن مكمن الوجود الإنساني، الذي يتحقق في ظل فضاء معين، حيث يمارس الانسان نشاطه اليومي، ف "الفضاء شرط الوجود الإنساني وتعيينه الذاتي لا يتحقق إلا به، وفيه الحضور والغياب يكونان في الفضاء، فحضر الشخص أي حلّ في الفضاء، وغاب أي حلّ في فضاء آخر". ووفق هذا التصور يدرك الفضاء، على أنه مكمن الوجود، وأنه لا وجود خارج المكان حتى أن المرء حين يستعمل تعبير العالم، فإنما يستعمل تعبيرا مكانيا. أما "الحيّز" فيقول الجرجاني "هو الفراغ المتوهم يشغله شيء ممتد كالجسم"، وتقول سيزا القاسم فرغم "اختلاف القيمة التي يضيفها الفرد على الحيز الذي يعيش فيه من مجتمع لآخر، ولكن الظاهرة التي تجمع البشر بأسرهم، هي أن الفرد يدافع دفاعا مستميتا عن حيّزه، وكثيرا ما يمنع  الآخرين من الولوج اليه".
أما المكان في السرد فهو العمود الفقري للأحداث، فلا يمكن أن تقع حادثة بدون مكان، لذا المكان هو «مفتاح من مفاتيح استراتيجية النص بغرض تفكيكه واستنطاقه، والقبض على جماليات النص المختلفة» وبما أن الفضاء الروائي يتشكل من جملة عناصر، لذلك يأتي التماسك البنيوي في النص من خلال هذه العلائق النصية من "زمان" و"مكان" و"شخصية" و"حدث" و"رؤية" وغيرها.
وقد صرح أفلاطون بأول استعمال اصطلاحي للمكان، إذ عده حاويًا وقابلًا للشيء، فأخذ أهميته في البحث الفلسفي، وقسم أرسطو المكان إلى قسمين: عام، وفيه الأجسام كلها، وخاص لا يحتوي أكثر من جسم في آن واحد. ولدينا عدد كبير من تقسيمات المكان منها: قسّم مول ورمير المكان بحسب السلطة، الى "عندي، عند الآخرين، أماكن عامة، المكان المتناهي"، أما بروب فقسّم المكان إلى: "المكان الأصل، المكان الذي يحدث فيه الاختيار الترشيحي وهو مكان عرضي ووقتي، المكان الذي يقع فيه الإنجاز والاختيار الرئيس وقد سمّاه غريماس باللا مكان". وتجاوزنا عددًا من التقسيمات بسبب تشابهها أو تكرارها.
فالمكان في الأدب هو أحد الأركان الرئيسة التي تقوم عليها العملية الشعرية والسردية حدثًا، وشخصية، وزمنًا، فهو الشاشة المشهدية العاكسة والمجسدة لحركته وفاعليته ولكن هذه المركزية التي يتمتع بها المكان لا تعني تفوقًا أو رجحانًا على بقية المكونات السردية الأخرى، وإنما هي ناجمة في الأساس عن الوظيفة التأطيرية والديكورية التي يؤديها المكان. وهكذا تبقى الاشكالية قائمة بين "الفضاء والحيز والمكان"، لأنها متقاربة
وأحيانا فيها شيء من التداخل الذي يضبب الرؤية ويُعالق الشك، مما يُصعّب الفصل الدقيق بين هذه المصطلحات.