الشبّان يفرّون من أوكرانيا تهرّباً من التجنيد
بوتر ساوير
ترجمة: أنيس الصفار
ينتظر دميترو بصبر نافد حلول الخريف، فقد وعده المهرّبون بأنهم سوف يخرجونه من أوكرانيا بحلول ذلك الوقت. قضى هذا المصور البالغ من العمر 31 عاماً من مدينة خاركيف، ثاني أكبر المدن الأوكرانيَّة، طيلة الشهر الماضي متقوقعاً داخل شقته لا يفارقها إلا نادراً لتفادي سوقه إلى الخدمة في الجيش. يقول دميترو: “أنا أريد مغادرة البلد، فعقلي لا يطيق فكرة البقاء أسير هذا الفخّ أكثر من هذا”.
منذ بداية الحرب اجتاز آلاف الرجال الأوكرانيين حدود بلدهم بشكل غير قانوني تهرباً من حملة التجنيد الإجباري رغم الحظر المفروض على الأمة الذي يمنع الرجال من الأعمار ما بين 18 و60 عاماً من مغادرة البلاد.
من المتوقع أن تتزايد محاولات الفرار من البلد بعد قرار أوكرانيا الأخير اعتماد إجراءات التعبئة العامة الجديدة التي تسمح للجيش باستدعاء مزيد من الجنود وفرض عقوبات أكثر صرامة على المتهربين من الالتحاق بالخدمة.
تعبئة عامة
يقول دميترو: “لم تخطر لي أبداً فكرة المغادرة قبل إعلان قوانين التعبئة العامة هذه، بيد أني لا أستطيع البقاء حبيس شقتي إلى الأبد.”
من خلال أصدقاء سبقوه في الفرار من البلاد، تمكن دميترو من الاتصال بالوسطاء ثم تواصل عبر الإنترنت مع أشخاص وعدوه بأن يسهلوا له عملية الهروب مقابل أجور باهظة تبدأ من مبلغ 8 آلاف يورو.
يقول دميترو: “أنا لم أخلق للحرب، فأنا لا أستطيع قتل أحد، حتى لو كانوا روساً. وأنا لن أصمد طويلاً على خطوط الجبهات.. أريد أن أنشئ أسرة وأرى العالم، لست مستعداً للموت.”
دميترو ليس متأكداً إن كان بوسعه الوثوق بالوسطاء، الذين رفعوا أجورهم مؤخراً في تجاوب مع تزايد الطلب، ولكنه كما يقول لا يرى أمامه أي خيارات أخرى.
قانون مثير
بعد أكثر من عامين على انطلاق الغزو الشامل الذي قام به “فلاديمير بوتين” تشعر القوات المسلحة الأوكرانية أنها تعاني عجزاً شديداً في الأفراد.
في بداية الحرب تطوع مئات الآلاف من المواطنين الأوكرانيين الاعتياديين لأداء الخدمة العسكرية في الجبهات، الأمر الذي ساعد على الحفاظ على استقلال البلاد وصد الهجوم الأولي. كثير من هؤلاء الجنود قتلوا أو جرحوا أو ببساطة نال منهم الإنهاك.. الأمر الذي لم يترك أمام الجيش من خيار سوى القيام بحملة تجنيد بين صفوف الرجال المعرضين عن
الخدمة.
ولأجل سدّ الفراغات في صفوف قواته وقع الرئيس الأوكراني “فلودومير زيلنسكي” في شهر نيسان الماضي قانوناً مثيراً للجدل خفض بموجبه سن السوق للخدمة العسكرية من 27 عاماً إلى 25 عاماً. وفقاً للتعليمات الجديدة يتعرض المتهربون من التجنيد لفقدان رخص قيادة سياراتهم وتجميد حساباتهم المصرفية ومصادرة
ممتلكاتهم.
ثمة اعتقاد بأنَّ أكثر من 20 ألف رجل قد فروا من البلاد حتى من قبل المباشرة بحملة التعبئة الأخيرة تجنباً للخدمة في الجيش. بعض هؤلاء حاولوا عبور الحدود إلى رومانيا سباحة وغرقوا أثناء المحاولة.
في شهر نيسان أفاد تقرير لرئيس جهاز حرس الحدود الأوكراني “أندريه ديمشينكو” بأنَّ 30 رجلاً أوكرانياً في الأقل قد لقوا حتفهم أثناء محاولتهم اجتياز الحدود، ومن المحتمل أن يكون الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير لأنَّ بعض الجثث على الأرجح قد لا تنتشل أبداً.
إذ يطوف ضباط التعبئة المدن الأوكرانية لتجنيد الرجال الذين بسن الخدمة العسكرية ينتهي كثيرون من أمثال دميترو إلى قرار بوضع خطط لمغادرة البلد خوفاً من أنهم قد لا يتمكنون من البقاء أحياء لوقت طويل على الخطوط الأمامية.
تعبئة فوضوية
منذ بداية الحرب كانت هناك انتقادات لعملية التعبئة وصفتها بأنها فوضوية ومشوبة بالفساد. وقد كثفت أوكرانيا جهودها لمنع فرار الأشخاص المعنيين عبر الحدود وتجنب سوقهم للخدمة العسكرية، وكان من أبرز تلك الجهود عزل زيلنسكي جميع قادة التعبئة العسكرية المحليين في شهر نيسان الماضي. جاء هذا العزل في أعقاب تقارير أفادت بأنَّ أولئك الضباط يتلقون الرشى مقابل إعفاء الرجال من السوق للخدمة العسكرية. بيد أنَّ هذه الممارسة كانت أصعب على ما يبدو من أن تستطيع السلطات اجتثاثها.
أطلعنا أندريه، وهو عامل في مجال تكنولوجيا المعلومات من مدينة أوديسا يبلغ من العمر 23 عاماً، على رسالة وردته من أحد وسطاء التهريب في أواخر شهر أيار تتضمن معلومات تتعلق بالكيفية التي ستمكنه من مغادرة البلاد. تحدّد التعليمات المفصلة مسارين متاحين للهرب، الأول يتضمن عبور الحدود المولدوفية باستخدام جواز سفر مزور، بينما يتمثل الخيار الثاني بإدراج اسم أندريه ضمن فئة الفنانين، وهي فئة يسمح لها أحياناً بمغادرة البلاد. يذكر الوسيط في رسالته أنَّ المسارين المشار إليهما تصل كلفتهما إلى 8 آلاف
يورو.
في الصيف الماضي كان أندريه قد نفذ بالفعل محاولة لعبور الحدود إلى مولدوفا مستخدماً شهادة طبية مزورة تؤكد أنه غير لائق صحياً للخدمة العسكرية.
بيد أنَّ تلك المحاولة فشلت حين ارتابت دورية من حرس الحدود بمصداقية الشهادة. عندئذ نقل أندريه على الفور إلى دائرة التجنيد، ثم لم يلبث أن أطلق سراحه بعد دفع الرشوة.
يقول: “لقد أصبحت الرحلة أكثر صعوبة ومسؤولو الحدود اليوم أقل استعداداً لتقبل الرشوة، لذا لا أعتقد أن الحظ سيحالفني مرة ثانية إذا ما سارت الأمور في الطريق الخطأ.”
يضيف أندريه أنه لا يزال يدرس عرض وسيط التهريب، مبيناً أنَّ الأجرة المطلوبة تعني أنه سوف يدفع كل ما ادخر من مال في حياته. يقول: “أنا حالياً أعيش وضع إقامة جبرية فرضته على نفسي، لأنني لم أعد أبرح شقتي على الإطلاق.”
بعض أصدقائه الذين سيقوا للخدمة جرى نشرهم بالفعل إلى جبهات القتال ومنهم من قتل، كما يقول، وقد أضر هذا بصحته العقلية.
أرقام المتوارين
لا تتوفر أرقام دقيقة عن أعداد الرجال المتوارين عن الأنظار أو الذين يخططون لترك بلدهم، لكن في المدن الكبرى بدأت تظهر فجأة قنوات “تلغرام” تضم آلاف المشاركين. على هذه القنوات يبث المشاركون بلاغات كلما شوهد ممثلو السلطات لمساعدة الآخرين على
تفاديهم.
تكشف مقابلات أجريت مع خمسة رجال كانوا يلزمون بيوتهم تجنباً للتجنيد جملة من الأسباب لتبرير ما فعلوه، حيث أعرب عديد منهم عن خوفه من الموت في معركة اتسمت بقتال دموي في الخنادق وبارتفاع معدلات الموت الوحشي، في حين أشار آخرون إلى أنَّ السبب الذي يجعلهم يعارضون التجنيد هو ما يتصورونه عن عدم كفاية التدريب والإعداد اللذين يتلقاهما المجندون قبل إرسالهم إلى الخطوط الأمامية. في حين اختار قسم آخر من هؤلاء التهرب من الخدمة لأسباب عائلية
معقدة.
يقول ميخائيلو، وهو أصلاً من مدينة ماريوبول ويعمل مدرباً رياضياً في كييف، إنَّ والديه لا يزالان يقيمان في تلك المدينة الساحلية التي احتلتها روسيا في ربيع 2022 بعد فرض حصار شرس عليها.
يقول: “سوف تتعرض عائلتي في ماريوبول إلى خطر مباشر إذا ما اكتشف الروس أنني أقاتلهم. أنا أحب بلدي وأريد المشاركة في القتال، ولكن العائلة تأتي أولاً وإنه لوضع شديد الصعوبة.”
بقي ميخائيلو مثل غيره يتجنب الخروج ويطلب إيصال ما يحتاج إليه من طعام إلى باب منزله دون المغامرة بالخروج إلا إلى صالة التدريب الرياضي قرب
مسكنه.
يضيف ميخائيلو معلقاً على الوضع الذي يعيشه: “لقد اضطررت مؤخراً إلى التخلف عن حضور عيد ميلاد أعز صديق لي بسبب خشيتي من مغادرة المنزل. إني أعيش حياة مقيدة للغاية.. وهذا أقل ما يقال.”
يقول ميخائيلو إنَّ العديد من أصدقائه قد فروا من البلد بالفعل وإنَّ الفكرة تراوده هو أيضاً بين حين
وآخر.
انقسام اجتماعي
رغم أنَّ الدعم العام لقوات البلاد يبقى مرتفعاً، وأنَّ استطلاعات الرأي تظهر أنَّ هناك حتى الآن أعداداً كبيرة من الرجال المستعدين للانخراط بالخدمة العسكرية، فإنَّ حملة التجنيد الإلزامي في أوكرانيا تهدد بوقوع انقسام في المجتمع الأوكراني الذي يعاني بالفعل إجهادات الحرب.
كثير من الجنود الأوكرانيين المرابطين على الجبهات، أو أولئك الذين عادوا منها بعد تعرضهم للإصابة، يعيبون سلوك التهرب من الخدمة العسكرية، قائلين إنَّ هذا السلوك يضعف المجهود الحربي لبلادهم في وقت تحرز القوات الروسية فيه تقدماً على عدة
جبهات.
خارج أحد المقاهي في مدينة كييف يقف رومان، الذي سرح من الخدمة بعد أن أصيبت ساقه اليمنى بقذيفة، وهو مستند إلى عكازه ليتحدث معبراً عن خيبة أمله وهو يستمع إلى الحكايات عن رجال يختبئون أو يحاولون الفرار تاركين بلدهم.
يقول رومان، الذي طلب عدم نشر اسمه الأخير: “الناس خائفون، وهذا شيء أتفهمه، لكننا ببساطة نحتاج إلى مجندين جدد لإدامة زخم المعركة. فإن لم نتصد نحن لحماية هذا البلد.. من غيرنا
سيتصدى؟”.
• صحيفة الغارديان
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة